بيت اللسانيات بيت اللسانيات

آخر الأخبار[cards]

جاري التحميل ...

تعليق

تمّام حسّان (1918-2011): مشروع التجديد المنهجي في اللسانيات العربية

 تمّام حسّان (1918-2011): مشروع التجديد المنهجي في اللسانيات العربية



يُعدّ الأستاذ الدكتور تمّام حسّان عمر، الأكاديمي المصري الراحل، قامة باسقة وأباً روحياً للتيار الوظيفي والوصفي في الدراسات اللسانية العربية المعاصرة. وُلِد حسّان عام 1918 وتُوُفّي عام 2011، وقد كرّس حياته لمشروع فكري ضخم هدف إلى إحياء التراث اللغوي العربي وتأطيره ضمن المناهج اللسانية الحديثة، مانحاً إياه الأدوات التحليلية التي تمكنه من تجاوز الجمود النظري والتحرر من الأغراض التعليمية المباشرة التي سادت لقرون. لم يكن حسّان مجرد شارح أو ناقل، بل كان مُنظِّراً سعى إلى بناء مدرسة عربية حديثة ذات أصول راسخة في اللغة العربية.

أولاً: المنهج وفلسفة التجديد

الخاصية الأبرز في مشروع تمّام حسّان هي الدعوة الصريحة والجريئة للانتقال من النظرة المعيارية (Prescriptive) إلى النظرة الوصفية (Descriptive) للغة.

1. التحرر من المعيارية

انتقد حسّان الهيمنة الطويلة للنحو العربي التعليمي الذي يركز على "ما يجب أن تكون عليه اللغة" (أي القواعد المثالية التي وضعها النحاة الأوائل)، مهمشاً لغة الاستعمال الفعلي. ورأى أن هذا التركيز المعياري أدى إلى فصل النحو عن الواقع اللغوي الحي.

2. تبني الوظيفية والوصفية

دعا حسّان إلى دراسة اللغة كما تُستعمل فعلاً في نصوصها الحقيقية، مُتأثراً بالمنهج اللساني الحديث. وقد ركز على المفهوم الوظيفي الذي ينظر إلى كل عنصر نحوي أو صوتي أو دلالي باعتباره يؤدي وظيفة محددة في سياق الجملة والتواصل. بالنسبة له، النحو ليس مجموعة من الإعرابات الجامدة، بل هو نظام وظيفي متكامل يخدم المعنى.

ثانياً: الإسهامات التأسيسية والمؤلفات الرئيسة

تُقسم أعمال حسّان إلى محاور تُظهر شمولية مشروعه، من التنظير المنهجي إلى التطبيق التحليلي:

أ. محور التنظير المنهجي والتأصيل

يُعدّ هذا المحور الأساس الذي قامت عليه مدرسته، حيث وضع فيه الإطار المفاهيمي والمنهجي لأي باحث عربي يطمح إلى التجديد:

  اللغة بين المعيارية والوصفية (1983) | يُعدّ هذا الكتاب البيان التأسيسي لمدرسته. وفيه يُفصّل حسّان الفروق الجوهرية بين النحو التقليدي واللسانيات الحديثة، ويُقدّم حُججاً قوية لضرورة التبني الواعي للمنهج الوصفي في تحليل الظواهر اللغوية العربية. إنه الدعوة الأبرز للانتقال من نحو القواعد إلى نحو الوظائف. 

 مناهج البحث في اللغة (1995) | يُمثل هذا العمل دليلاً إجرائياً للباحثين. يحدد الأطر المنهجية والخطوات العلمية اللازمة لإجراء بحث لساني دقيق، ويُعلّم الباحث العربي كيف يتجاوز التقليد الأعمى ويُوظف الأدوات التحليلية الحديثة في دراسة اللغة العربية على كافة مستوياتها (الصوت، الصرف، النحو، الدلالة). 

ب. محور التطبيق التحليلي وعلم النص

في هذا المحور، انتقل حسّان من التنظير إلى تطبيق منهجه الوظيفي والوصفي على نصوص فعلية، أبرزها النص القرآني والتراث النحوي نفسه:

| البيان في روائع القرآن (1993) | يُعدّ هذا من أهم أعماله التطبيقية. حيث يُحلّل فيه النص القرآني بمنظور وظيفي وبلاغي جديد. يُثبت حسّان قدرة منهجه على استخلاص دلالات عميقة من التراكيب القرآنية، مركزاً على أن الإعراب التقليدي ليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة لكشف الوظيفة الدلالية والتواصلية التي قصدها النص. |

| الخَصَائص - الجزء الثاني (2001) | هذا العمل هو إعادة قراءة نقدية وتفسيرية لكتاب "الخصائص" لابن جني، أحد أهم أركان الفكر اللغوي التراثي. لا يكتفي حسّان بالشرح، بل يُعيد تأويل المصطلحات النحوية والبلاغية التراثية بـمنظار لساني حديث، مما يدل على قدرته الفائقة على وصل القديم بالجديد، ويؤكد أن التراث يحتوي على بذور المنظور الوصفي والوظيفي. |

ثالثاً: المقالات المتخصصة وتفاصيل الإسهامات الجزئية

لم يقتصر إسهام حسّان على الكتب الكبرى، بل نشر العديد من المقالات والأبحاث المحكمة التي تناولت قضايا دقيقة، مُقدماً حلولاً تفصيلية لمسائل جزئية في تخصصات عميقة:

 * الدلالة المعجمية: تناول حسّان في مقالاته كيفية تنظيم المعجم العربي وعلاقة اللفظ بالمعنى، مُركزاً على السياق ودوره في تحديد الدلالة.

 * النظام الصوتي: قدم حسّان تحليلات معمقة لخصائص الأصوات العربية وتوزيعها (الفونولوجيا)، مُحاولاً تحديد النظام الصوتي للعربية الحديثة بدقة بعيداً عن الرؤى القديمة.

 * العلاقة بين الصوت والمعنى: يُعدّ بحثه في هذه العلاقة من أبرز الأمثلة على تناوله للمسائل الجزئية بعمق، حيث استكشف كيف يمكن للجرس الصوتي أن يساهم في بناء الدلالة العامة للكلمة أو التركيب.

كل هذه المقالات تُكمل صرحه النظري وتُثبت صلاحية منهجه التطبيقي على أدق مستويات التحليل اللغوي.

📝 ملخص المشروع الفكري

يُمكن تلخيص مشروع الدكتور تمّام حسّان في النقاط الآتية:

 * المنهجية: إرساء الأساس النظري والمنهجي للانتقال من النحو المعياري (ما يجب أن يُقال) إلى اللسانيات الوصفية والوظيفية (ما يُقال بالفعل).

 * التطبيق: استخدام هذا المنهج الجديد في تحليل أمهات النصوص العربية، كالنص القرآني، لإثبات فاعليته التحليلية وقدرته على استخلاص دلالات جديدة.

 * التأصيل: إعادة قراءة التراث النحوي والبلاغي بعين اللساني الحديث، مُؤكداً أن هذا التراث غني بالمفاهيم الوظيفية الكامنة التي تستحق إعادة الاكتشاف والتأويل.

 * الأثر: تشكيل وعي أجيال من الباحثين العرب وتزويدهم بالأدوات اللازمة لربط الأصالة بالمعاصرة في الدراسة اللغوية.

 الخاتمة: الإرث الدائم

لقد مثّل الدكتور تمّام حسّان نموذجاً للعالم اللغوي الذي يجمع بين أصالة التراث العربي والإلمام العميق بأحدث النظريات اللسانية العالمية. وبفضل مشروعه التأسيسي، صار إسهامه ليس مجرد جزء من تاريخ اللسانيات العربية، بل هو نقطة انطلاق ومنهج عمل لا يزال يُعتمد عليه في الجامعات ومراكز البحث. إرثه ليس فقط كتبه القيمة، بل هو منهج التفكير الحر الذي زرعه في عقول تلامذته والباحثين، وهو القائل دوماً بأن التجديد في اللغة يبدأ بتجديد أدوات النظر إليها.

عن الكاتب

بيت اللسانيات | Bitlisaniyat

التعليقات


اتصل بنا

من أجل البقاء على تواصل دائم معنا ، قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في موقعنا ليصلك كل جديدً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

بيت اللسانيات