اللِّسَانِيَّاتُ: عِلْمُ النِّظَامِ وَالتَّطْبِيقِ.. دِرَاسَةٌ فِي الإِشْكَالِيَّاتِ الجَذْرِيَّةِ

​

اللِّسَانِيَّاتُ: عِلْمُ النِّظَامِ وَالتَّطْبِيقِ

دِرَاسَةٌ فِي الإِشْكَالِيَّاتِ الجَذْرِيَّةِ

​مُقَدِّمَةٌ: التَّعْرِيفُ المَنْهَجِيُّ وَالوَظِيفَةُ المَعْرِفِيَّةُ

​تُمَثِّلُ اللِّسَانِيَّاتُ (Linguistics) أَحَدَ أَعْمَقِ الحُقُولِ المَعْرِفِيَّةِ المُخْتَصَّةِ بِدِرَاسَةِ اللُّغَةِ الإِنْسَانِيَّةِ. وَهِيَ، وَفْقَاً لِلتَّعْرِيفِ العِلْمِيِّ، "الدِّرَاسَةُ العِلْمِيَّةُ المَنْهَجِيَّةُ لِلُغَةِ كَظَاهِرَةٍ بَشَرِيَّةٍ". إِنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ يُلْغِي الدَّوْرَ المِعْيَارِيَّ (النَّحْوِيَّ التَّقْلِيدِيَّ) وَيُؤَسِّسُ لِـدَوْرٍ وَصْفِيٍّ وَتَفْسِيرِيٍّ؛ هَدَفُهُ الكَشْفُ عَنِ البُنَى العَقْلِيَّةِ الخَفِيَّةِ الَّتِي تُمَكِّنُ المُتَحَدِّثَ مِنْ إِنْتَاجِ وَفَهْمِ الجُمَلِ.

​تَنْقَسِمُ اللِّسَانِيَّاتُ إِلَى جَنَاحَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ يَتَفَاعَلَانِ بِاسْتِمْرَارٍ: اللِّسَانِيَّاتُ النَّظَرِيَّةُ (المَعْنِيَّةُ بِنَظَامِ اللُّغَةِ) وَاللِّسَانِيَّاتُ التَّطْبِيقِيَّةُ (المَعْنِيَّةُ بِوَظَائِفِهِ فِي الوَاقِعِ). وَفِي هَذِهِ المَقَالَةِ، سَنَتَنَاوَلُ هَذِهِ الفُرُوعَ بِالتَّعْرِيفِ وَتَسْلِيطِ الضَّوْءِ عَلَى إِشْكَالِيَّاتِهَا الحَقِيقِيَّةِ.

​أَوَّلاً: اللِّسَانِيَّاتُ النَّظَرِيَّةُ (Theoretical Linguistics)

​تَتَّخِذُ اللِّسَانِيَّاتُ النَّظَرِيَّةُ مِنْ نَمْذَجَةِ اللُّغَةِ كَـنَسَقٍ مُجَرَّدٍ مَهَمَّةً أَسَاسِيَّةً لَهَا. وَتُعْنَى بِبِنَاءِ النَّظَرِيَّاتِ وَالقَوَاعِدِ الكُلِّيَّةِ الَّتِي تَحْكُمُ الأَنْسَاقَ اللُّغَوِيَّةَ بِمُجْمَلِهَا. وَتَشْمَلُ الفُرُوعَ التَّأْسِيسِيَّةَ التَّالِيَةَ:

​1. عِلْمُ الأَصْوَاتِ (Phonetics): المَادَّةُ الخَامُ لِلُغَةِ

​يُمَثِّلُ هَذَا الفَرْعُ نُقْطَةَ الاِنْطِلَاقِ، إِذْ يَدْرُسُ الصَّوْتَ اللُّغَوِيَّ كَـظَاهِرَةٍ فِيزْيَائِيَّةٍ بَحْتَةٍ، دُونَ النَّظَرِ إِلَى وَظِيفَتِهِ. وَيَنْقَسِمُ وِفْقَاً لِمَسَارِ الصَّوْتِ: نُطْقِيٌّ (آلِيَّةُ الإِنْتَاجِ)، وَأَكُوسْتِيكِيٌّ (خَصَائِصُ المَوْجَةِ)، وَإِدْرَاكِيٌّ (اسْتِقْبَالُ الأُذُنِ).

​الإِشْكَالِيَّةُ الجَذْرِيَّةُ فِي عِلْمِ الأَصْوَاتِ:

​تَتَمَحْوَرُ الإِشْكَالِيَّةُ الأَسَاسِيَّةُ فِي تَبَايُنِ النُّطْقِ الفَرْدِيِّ (Idiosyncratic Variation). فَكَيْفَ يُمْكِنُ بِنَاءُ قَوَاعِدَ صَوْتِيَّةٍ مُوَحَّدَةٍ، تَصْلُحُ لِلتَّطْبِيقِ (خَاصَّةً فِي مَجَالِ تِقْنِيَّاتِ التَّعَرُّفِ عَلَى الكَلَامِ)، فِي ظِلِّ تَنَوُّعِ النُّطْقِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ حَتَّى لَدَى الشَّخْصِ الوَاحِدِ فِي سِيَاقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ؟

​2. عِلْمُ وَظَائِفِ الأَصْوَاتِ (Phonology): نِظَامُ التَّمْيِيزِ

​يَنْتَقِلُ هَذَا العِلْمُ بِالدِّرَاسَةِ مِنْ عَالَمِ الفِيزْيَاءِ إِلَى عَالَمِ النِّظَامِ وَالقَوَاعِدِ. وَيُعْنَى بِدِرَاسَةِ وَظِيفَةِ الصَّوْتِ التَّمْيِيزِيَّةِ فِي لُغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَكَيْفَ يَتِمُّ تَنْظِيمُ الأَصْوَاتِ فِي وَحْدَاتٍ وَظِيفِيَّةٍ تُسَمَّى الفُونِيمَاتُ (Phonemes) لِتُحْدِثَ فَرْقاً فِي المَعْنَى.

​الإِشْكَالِيَّةُ المَنْهَجِيَّةُ:

​تَكْمُنُ الإِشْكَالِيَّةُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّنْوِيعِ الصَّوْتِيِّ غَيْرِ الوَظِيفِيِّ (Allophony) وَالتَّنْوِيعِ الفُونِيمِيِّ الوَظِيفِيِّ. كَيْفَ يَقُومُ العَقْلُ بِـتَجَاهُلِ اِخْتِلَافَاتٍ صَوْتِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ (كَالتَّنْوِيعِ فِي نُطْقِ صَوْتٍ وَاحِدٍ) وَيَعْتَبِرُهَا كِيَاناً وَظِيفِيّاً وَاحِداً، فِي حِينِ يُحَوِّلُ اِخْتِلَافاً آخَرَ مُشَابِهاً إِلَى تَغْيِيرٍ فِي المَعْنَى (أي فُونِيم جَدِيد)؟

​3. عِلْمُ الصَّرْفِ (Morphology): بِنَاءُ الكَلِمَةِ

​يَدْرُسُ عِلْمُ الصَّرْفِ البِنْيَةَ الدَّاخِلِيَّةَ لِلْكَلِمَاتِ، وَالوِحْدَاتِ الصَّرْفِيَّةِ الصُّغْرَى الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنْهَا الكَلِمَةُ (المُورْفِيمَاتُ/Morphemes)، وَكَيْفَ يُمْكِنُ صِيَاغَةُ الكَلِمَاتِ وَاِشْتِقَاقُهَا وَتَصْرِيفُهَا.

​4. عِلْمُ النَّحْوِ/التَّرْكِيبِ (Syntax): نِظَامُ الجُمْلَةِ

​يَخْتَصُّ بِدِرَاسَةِ القَوَاعِدِ الَّتِي تَحْكُمُ تَرْتِيبَ وَتَنْمِيطَ الكَلِمَاتِ لِتَشْكِيلِ عِبَارَاتٍ وَجُمَلٍ صَحِيحَةٍ. وَيَسْعَى لِتَقْدِيمِ نَمَاذِجَ تُفَسِّرُ قُدْرَةَ الإِنْسَانِ عَلَى تَوَلِيدِ بُنَى جُمَلِيَّةٍ لَمْ تُسْمَعْ مِنْ قَبْلُ.

​الإِشْكَالِيَّةُ النَّظَرِيَّةُ العُظْمَى:

​إِشْكَالِيَّةُ الكُلِّيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ (Universal Grammar): هَلْ تَتَشَارَكُ جَمِيعُ اللُّغَاتِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ تَفَاوُتِهَا، فِي مَبَادِئَ فِطْرِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي العَقْلِ البَشَرِيِّ (كَمَا تَقْتَرِحُ النَّظَرِيَّةُ التَّوْلِيدِيَّةُ)؟ وَمَا هِيَ المُحَدِّدَاتُ (Parameters) الَّتِي تَجْعَلُ اللُّغَاتِ تَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ المَبَادِئِ الأَسَاسِيَّةِ؟

​5. عِلْمُ الدَّلَالَةِ وَالتَّدَاوُلِ (Semantics and Pragmatics)

• ​عِلْمُ الدَّلَالَةِ: يَدْرُسُ المَعْنَى المُجَرَّدَ لِلْكَلِمَاتِ وَالعِبَارَاتِ وَالجُمَلِ بِمَعْزِلٍ عَنِ السِّياقِ.
• ​عِلْمُ التَّدَاوُلِ: يَدْرُسُ المَعْنَى فِي سِيَاقِ الاِسْتِعْمَالِ، أَيْ كَيْفَ يَتَأَثَّرُ المَعْنَى بِمَقَامِ الكَلَامِ وَقَصْدِ المُتَحَدِّثِ وَظُرُوفِ المُحَادَثَةِ.

​ثَانِياً: اللِّسَانِيَّاتُ التَّطْبِيقِيَّةُ (Applied Linguistics)

​تُمَثِّلُ اللِّسَانِيَّاتُ التَّطْبِيقِيَّةُ الجَانِبَ العَمَلِيَّ الَّذِي يَسْتَثْمِرُ النَّتَائِجَ النَّظَرِيَّةَ لِحَلِّ مُشْكِلَاتٍ حَيَاتِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ. وَأَبْرَزُ فُرُوعِهَا:

​1. اللِّسَانِيَّاتُ الحَاسُوبِيَّةُ (Computational Linguistics)

​تُعْنَى بِبِنَاءِ نَمَاذِجَ رِيَاضِيَّةٍ وَخَوَارِزْمِيَّاتٍ لِمُعَالَجَةِ اللُّغَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ (NLP)، وَالتَّرْجَمَةِ الآلِيَّةِ، وَالتَّعَرُّفِ عَلَى الكَلَامِ.

​الإِشْكَالِيَّةُ المَعَاصِرَةُ (تَحَدِّي الذَّكَاءِ الاِصْطِنَاعِيِّ):

​يَتَمَثَّلُ التَّحَدِّي الأَكْبَرُ فِي تَجَاوُزِ المَنْطِقِ الإِحْصَائِيِّ (Statistical Approach). فَالنَّمَاذِجُ العَصَبِيَّةُ الحَدِيثَةُ تَتَفَوَّقُ فِي مُحَاكَاةِ البُنَى السَّطْحِيَّةِ، لَكِنَّ الإِشْكَالَ يَبْقَى فِي مَدَى قُدْرَتِهَا عَلَى "فَهْمِ المَعْنَى" بِمَعْنَاهُ البَشَرِيِّ العَمِيقِ، وَهَلْ يُمْكِنُهَا اِكْتِسَابُ الكِفَايَةِ اللُّغَوِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ كَالْإِنْسَانِ؟

​2. عِلْمُ اللُّغَةِ الاِجْتِمَاعِيِّ (Sociolinguistics)

​يَدْرُسُ العَلَاقَةَ المُتَبَادَلَةَ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالمُجْتَمَعِ، مُسَلِّطاً الضَّوْءَ عَلَى اِخْتِلَافِ الاِسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ (التَّنَوُّعِ) حَسَبَ المُتَغَيِّرَاتِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ (الْعُمْرِ، النَّوْعِ، الطَّبَقَةِ، المَكَانِ).

​الإِشْكَالِيَّةُ التَّطْبِيقِيَّةُ:

​إِشْكَالِيَّةُ التَّخْطِيطِ اللُّغَوِيِّ: كَيْفَ يُمْكِنُ لِلدُّوَلِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِازْدِوَاجِيَّةٍ لُغَوِيَّةٍ (Diglossia) أَوْ تَعَدُّدِيَّةٍ لُغَوِيَّةٍ أَنْ تَضَعَ سِيَاسَاتٍ تَرْبَوِيَّةً وَإِدَارِيَّةً تَعْكِسُ التَّنَوُّعَ، وَتُعَزِّزُ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ التَّوَاصُلَ وَالتَّنْمِيَةَ، دُونَ إِقْصَاءِ أَيِّ لَهْجَةٍ أَوْ لُغَةٍ مَحَلِّيَّةٍ؟

​3. فُرُوعٌ أُخْرَى مُهِمَّةٌ:

• ​اللِّسَانِيَّاتُ النَّفْسِيَّةُ (Psycholinguistics): دِرَاسَةُ العَمَلِيَّاتِ العَقْلِيَّةِ المُرْتَبِطَةِ بِفَهْمِ اللُّغَةِ وَإِنْتَاجِهَا وَاِكْتِسَابِهَا.
• ​تَعْلِيمُ اللُّغَةِ الأَجْنَبِيَّةِ (SLA): تَطْوِيرُ المَنَاهِجِ وَأَسَالِيبِ التَّدْرِيسِ بِنَاءً عَلَى نَتَائِجِ اللِّسَانِيَّاتِ النَّظَرِيَّةِ.

​خَاتِمَةٌ: التَّفَاعُلُ المُلْزِمُ وَأُفُقُ البَحْثِ المُسْتَقْبَلِيِّ

​إِنَّ اللِّسَانِيَّاتِ بِجَنَاحَيْهَا النَّظَرِيِّ وَالتَّطْبِيقِيِّ لَيْسَتْ سِوَى شَبَكَةٍ مُتَرَابِطَةٍ مِنَ الدِّرَاسَاتِ. فَالنَّظَرِيَّةُ تُقَدِّمُ الأَدَوَاتِ لِلْعَمَلِ التَّطْبِيقِيِّ، وَالمَشَاكِلُ التَّطْبِيقِيَّةُ تَعُودُ لِتَطْرَحَ تَحَدِّيَاتٍ جَدِيدَةً تُجْبِرُ النَّظَرِيَّةَ عَلَى التَّحْدِيثِ وَالتَّطْوِيرِ (كَمَا حَدَثَ مَعَ ثَوْرَةِ الذَّكَاءِ الاِصْطِنَاعِيِّ).

​وَهَكَذَا، يَبْقَى حَقْلُ اللِّسَانِيَّاتِ دَائِمَ الْاِشْتِعَالِ المَعْرِفِيِّ، مُحَاوِلاً لَا فَقَطْ وَصْفَ اللُّغَةِ، بَلْ فَهْمَ آثَارِهَا العَمِيقَةِ عَلَى العَقْلِ وَالمُجْتَمَعِ وَالتِّكْنُولُوجْيَا.