كلما ابتعد الإنسان عن لغته، اقترب من العجز عن فهم ذاته. ليس لأن الكلمات تفوته، بل لأن المعاني تهرب منه. اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم، بل هي الكيفية التي نتذوق بها العالم، ونحس بها بالأشياء، ونفكر بها في الكون والناس والوجود.
من يتخلى عن لغته، يتخلى عن طريقته في الإحساس، عن ذاكرة جماعية اختزلت قرونًا من التجربة البشرية. الكلمة في العربية لا تحيل فقط إلى معناها المباشر، بل تحمل خلفها إيقاعًا ثقافيًّا، وشحنة عاطفية، وعمقًا تاريخيًّا لا يُترجم.
نعيش زمنًا يُروّج فيه أن التقدم رهين بتبنّي لغة الآخر. نعلّم أبناءنا أن العربية عاجزة، وأن العلم لا يُنتج إلا بغيرها، ونُقصيها من جامعاتنا ومخابرنا ومجالاتنا التقنية، ثم نُصدم حين نجد أنفسنا ننتج بلغتهم ولا نفكر مثلهم، ونتحدث بألسنتهم ولا نرتقي بفكرنا.
حين تضعف اللغة في النفس، تضعف معها الثقة، وتبدأ الهوية بالتآكل. تذوب العلاقة بين الإنسان ومحيطه، فيصبح غريبًا في وطنه، غريبًا في جلده، يتحدث لغة لا تُشبهه، ويصمت في حضرة لغته الحقيقية لأنه خائف، أو خجل، أو "غير واثق".
اللغة ليست مشكلة تقنية تُحل بتحديث مناهج، بل قضية وجود، ومسألة بقاء. أن تحيا بلغتك هو أن تكون حاضرًا بالكامل: في إحساسك، في حلمك، في حوارك، في حزنك، في فرحك. أما أن تعيش بلغةٍ لا تشبهك، فذلك نوع آخر من الغربة... غربة بلا سفر، ولا جواز، ولا عودة.
تعليق