ليست اللغة وسيلة تواصل فقط، بل مرآة نرى فيها أنفسنا. حين نتكلم بلغتنا، لا نُخرج كلمات فحسب، بل نُخرج طبقات من الذاكرة والانتماء والتاريخ. كلمة واحدة قد تحمل آلاف الوجوه، والمواقف، والمشاعر. لهذا، حين يُنتزع الإنسان من لغته، يُنتزع من ذاكرته دون أن يدري.
اللغة ليست أصواتًا، بل ملامح. ليست جملاً، بل حيوات. الطفل لا يقول "يا مّا" لأنه تعلّم الكلمة في المدرسة، بل لأنه استبطنها من حضنٍ ودفء ولمسة. والمغترب لا يقول "بلادي" ليرد التحية، بل ليطبطب على قلبه. إنها ليست ألفاظًا، إنها استعادات.
ولهذا يُخطئ من يظن أن التخلي عن اللغة لا يؤثر على الهوية. كل تنازل لغوي هو تنازل عن طبقة من الذات. حين نُدرّس أبناءنا بلغة أجنبية ونُربّيهم على أن العربية غير صالحة للعلم أو التفكير، نحن لا نمنحهم فرصة، بل نُضعف جذورهم.
اللغة ليست مشكلة في النحو أو الإملاء، بل في المكانة التي نمنحها لها داخل وعينا. ما دام العقل يفكر بلغةٍ أخرى، فالقلب سيشعر بانفصال. ما دام الحلم يُصاغ بلغة مستوردة، فالواقع سيبقى غريبًا.
ليس الخطر أن تتراجع العربية في السجلات، بل أن تتراجع في الضمائر. حين نخجل من الحديث بها، حين نكسرها ونضحك، حين نعتذر عنها دون أن نُسأل، نكون قد بدأنا في الانسلاخ.
السؤال العميق ليس: هل نتكلم العربية؟ بل: هل نحيا بها؟ هل نفكر بها؟ هل نحلم بها؟ وإذا لم نعد نفعل، فمَن نحن إذن؟
تعليق