تقرير: "ابستمولوجيا البحث في الصوتيات والصواتة"
أعد التقرير: ذ. حمد بن خميس الظفري
في رحاب العلم والمعرفة اللغوية، وفي أمسية علمية زاخرة بالإثراء والفائدة العلمية، استضافت أكاديمية بيت اللسانيات الدولية بتركيا ممثلة في "فريق باحثون" قامة علمية شامخة في سماء الدراسات الصوتية، هو الدكتور زين العابدين سليمان- (المدرسة العليا للأساتذة مكناس، جامعة مولاي إسماعيل- المملكة المغربية)-، وذلك يوم الأحد الثالث عشر من إبريل لعام ألفين وخمسة وعشرين ميلادي، وقد قدم لنا محاضرة علمية موسومة بـــــــ"ابستمولوجيا البحث في الصوتيات والصواتة"، إنها رحلةٌ إلى جذور المعرفة، وغوصٌ في الأسس الفلسفية التي تشكل رؤيتنا لطبيعة الصوت اللغوي، وكيف نسعى جاهدين لفهم قوانينه الخفية وتجلياته المتنوعة. لقد كانت دعوةً لتدقيق النظر في العدة المنهجية والأطر النظرية التي نستند إليها في رحلتنا المضنية نحو كشف أسرار هذه الأصوات التي تحمل بين طياتها كنوز الفهم والتواصل الإنساني.
في مستهل اللقاء العلمي، ألقت الدكتورة فاتحة عبدالسلام كلمة ترحيبية بالحضور وأعضاء الأكاديمية، مقدمةً الدكتور المتحدث، ومستعرضةً إنجازاته ومساهماته القيّمة في علم اللغة العربية. وأشارت إلى أنه يتمتع بمسيرة علمية حافلة ومنشورات واسعة النطاق تغطي جوانب متنوعة من الدراسات اللغوية، أبرزها أبحاثه المتعمقة في التراكيب النحوية ومنهجيات تدريس اللغة العربية الحديثة، بالإضافة إلى مشاركاته الفاعلة في المؤتمرات الدولية التي تناقش المناهج اللغوية وتأثيرها في تعليم اللغة العربية.
وفي بداية حديثه عبَّر الدكتور زين العابدين عن شكره وتقديره العميق لأكاديمية بيت اللسانيات، هذا الصرح الذي يحتضن رواد الفكر اللغوي، كما خصّ الحضور الكريم بعبارات الثناء والامتنان لتلبية دعوتهم وحرصهم على ارتياد رياض المعرفة.
محاور المحاضرة:
مكانة الدرس الصوتي في العلوم اللغوية.
الصوتيات من النشأة إلى التأسيس.
الصواته (علم وظائف الأصوات).
نماذج النظرية التوليدية.
تطور الدراسات الصواتية عبر الزمن.
مكانة الدرس الصوتي في العلوم اللغوية:
تعد الدراسات الصوتية بمثابة اللبنة الأساسية التي تُبنى عليها الكلمات والجمل، مما يجعل دراسة الصوتيات ضرورية؛ لأي بحث لغوي.
وهناك بعض المبادئ والمفاهيم الأساسية التي يجب على الباحثين استيعابها عند التعمق في الدراسات الصوتية، مع التركيز على الوضوح في إنتاج الصوت وإدراكه لدى المستمعين، ويُميز بين علم الأصوات التقليدي والمناهج المعاصرة التي تتضمن تقنيات تحليلية متقدمة لدراسة الأصوات عبر اللغات.
وأكد الدكتور زين العابدين على أهمية الفونتيك (علم الأصوات) كأحد الفروع الأساسية في الدراسات الصوتية، وأشار إلى ضرورة أن يكون الباحث على دراية بمجموعة من المفاهيم الأساسية في هذا المجال. ويُعد الفونتيك دراسة متعمقة للأصوات اللغوية وكيفية إنتاجها وإدراكها.
وأن الصوتيات تشمل أيضًا دراسة الأصوات المجردة وغير المركبة، ولكنها لا تتعرض لتاريخ الحروف أو التغييرات التي تطرأ عليها. والتوجه مهمًا لفهم كيفية عمل الصوتيات في اللغة العربية بشكل خاص.
ماذا تدرس الصوتيات؟
تدرس الصوتيات الجانب الفيزيائي والطبيعي لأصوات اللغات بشكل عام، كما تهتم بدراسة مكمن إنشاء الصوت، ومعرفة الأعضاء التي تسمح بالنطق، وتبحث في تشكل الأمواج الصوتية، والأثر السمعي الذي يمكن أن تحدثه على المستمع.
أصبحت الصوتيات في دراستها اللغوية الحديثة تعتمد على مجموعة من الآلات والوسائل التقنية الحديثة والمختبرات الصوتية.
الصوتيات من النشأة إلى التأسيس:
المجال الصوتي هو مجال ودراسة يهتم بالفكر الإنساني جمعاء. لقد تمت دراسة الصوت منذ فترات مبكرة جدًا من عمر الحضارة الإنسانية بشكل عام. إذ كانت دراسة الصوت حاضرة سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر عند الإنسان. ويبقى للأصوات دور مهم في اكتمال النظام التواصلي لدى الأفراد في المجتمع.
أهمية الصوتيات عبر الثقافات:
ما موقع الصوتيات عند العرب والغرب؟
عندما نتحدث عن الصوتيات عند الغرب، نجد أن بعض الحضارات اهتمت بهذا المجال، منها الحضارة الهندية، وظهر فيها العالم بانيني الذي سعى إلى أن يقدم لنا وصفًا دقيقًا لأصوات اللغة من ناحية نطقها. وهذا الأمر يتعلق بشكل خاص باللغة التي يُطلق عليها "اللغة السنسكريتية" منذ حوالي القرن السادس قبل الميلاد.
وفي هذا السياق تحديدًا، قدم العالم بانيني تحليلًا لغويًا فريدًا من نوعه في تاريخ الدراسات اللغوية. وكان الهنود يعنون عناية قصوى ببقاء اللفظ الصحيح للعبارات الدقيقة من الناحية الصوتية أو الوصف الصوتي للغة.
ويعد الهنود أول من قدم وصفًا دقيقًا للأصوات اللغوية من ناحية نطقها في تاريخ الفكر الإنساني بشكل عام.
في حين نجد أن المفكرين والفلاسفة في اليونان انشغلوا بدراسة اللغة بجميع جوانبها الصوتية، والنحوية (التركيبية)، والدلالية. وركزت دراساتهم بشكل خاص على دراسة النظام الصوتي بين الأفراد، وهذا الاهتمام بطبيعة النظام والتواصل بين أفراد المجتمع يُعد مرجعًا علميًا رصينًا، كان له تأثير كبير على الدراسات اللغوية.
أما الدراسات الصوتية عند العرب، فإنها تأثرت بالتحولات الفكرية والحضارية، وقد أحدث القرآن الكريم تحولا كبيرا في فهم وتطور اللغة العربية ودراساتها الصوتية، إذ اعتمدت المعايير النحوية على الأسس الصوتية، وقد وضع أبو الأسود الدؤلي الضوابط الصوتية لقراءة القرآن إذ قال:" إذا رأيتني قدّ فتحتُ فمي بالحرفِ فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النّقطة تحت الحرف، فإن اتبعتُ شيئًا من ذلكَ غُنّة فاجعل مكان النّقطة نقطتين". وهذا يدل على اهتمام العرب بالظاهرة الصوتية التي كانت بمثابة المعيار والمحدد الأساسي لضبط معايير النحو العربي.
مراحل إدراك الصوت:
تتضمن دراسة الأصوات مراحل متعددة بدءا من إنتاجها إلى إدراكها، منها:
انتاج الصوت: الجانب العضوي أو النطقي عند المتكلم، ويكون نتيجة لحركة أعضاء النطق أو أعضاء الجهاز الصوتي.
مرحلة انتقال الأصوات وانتشارها: تشمل المراحل الفيزيائية التي تمر بها الأصوات فبل الوصول إلى مرحلة الإدراك، مثل الاهتزازات الناتجة عن حركة الهواء.
الإدراك السمعي: يتطلب تفاعلا مع البيئة المحيطة، وتأثيرات صوتية مختلفة، وتكون عبر استقبال الصوت من طرف السامع في شكل ذبذبات تؤثر في طبلة أذنه.
الصواته (علم وظائف الأصوات) (الفونولوجيا):
الصواته فرع من فروع علم اللسانيات تهتم بدراسة الأصوات داخل التركيب اللغوي وتأثيراتها المتبادلة في بناء المعاني والكلمات، ومن هذه الظواهر الصوتية التي تدرسها الفونولوجيا: الإدغام، والإعلال، والإبدال، والمماثلة، والنبر، والتنغيم، والوقف، وغيرها، كما يدرس علاقتها بالأصوات الأخرى من ناحية المعنى، ووظيفة الصوت في تحديد المعنى.
النظريات اللسانية:
بشكل عام يمكن تقسيم النظريات اللسانية إلى قسمين أساسيين هما:
القسم الأول: النظرية التوليدية الصورية: أصحاب هذه النظرية يدرسون اللغة الطبيعية بحد ذاتها دون النظر إلى وظيفتها، أي أنهم يدرسون كيفية إنتاج وتشكل هذه اللغة، وكذلك كيف تعمل مجموعة من الأعضاء في الذهن البشري من أجل إنشاء اللغات بشكل عام؟
القسم الثاني: النظرية الوظيفية: ينطلق المتخصصون في مجال اللسانيات الوظيفية من منهجين أساسيين هما: تأدية اللغة لوظيفة التواصل، وارتباط بنية اللغة بوظيفتها.
نماذج النظرية التوليدية:
النموذج الأول (التوليدي المعياري):
ظهر هذا النموذج مع ظهور كتابي تشومسكي "البنيات التركيبية" سنة 1957م، وكتاب "مظاهر البنية التركيبية" سنة 1965م، والكتاب المشترك بين تشومسكي وهالي بعنوان: "النسق الصوتي للغة الإنجليزية" سنة 1968م.
ويمكن القول: أحدث تشومسكي ثورة في علم اللغة من خلال تطويره للنظرية التوليدية، وجعلها تتألف من ثلاثة مكونات: المكون التوليدي (الأساسي) المسؤول عن توليد البنية العميقة للجمل، والمكون التركيبي الذي يحول هذه البنية العميقة إلى بنية سطحية، والمكون الصوتي (الفونولوجي) الذي يحول هذه البنية السطحية إلى شكلها الصوتي المنطوق. واعتمد هذا النموذج بشكل كبير على نظرية السمات المميزة التي استنبطها " أولا جاكوبسون"، وبناها على مجموعة من الخصائص السمعية.
النموذج الثاني (النظرية التطريزية):
بيّن الدكتور في البداية لمحة عن الفونيمات وإنها تكون على شكل ألوفونات (Allophones)، وهو تنوع صوتي لنفس الفونيم (Phoneme)، وتتجمع الألوفونات في مجموعة تسمى صنفًا صوتيًا، وكل واحدة منها تشكل صوتًا. ثم تتبع هذه الفونيمات وفقًا لقواعد تتحكم في توزيعها واختلافها، لتكوّن ما يسمى بالمورفيمات (Morphemes) وهي الوحدات الصرفية، أو الوحدات الصوتية الدنيا ذات الدلالة، تتغير صوتيًا عبر التحويل.
وتحدث الدكتور زين العابدين عن نظرية الصواته التطريزية التي ظهرت في إنجلترا، وتقوم على تقنيات تحليل مركبي يعتمد على مظاهر البنية الفونولوجية في مستوياتها التي تتجاوز الوحدة الفونيمية الصغرى، وبتمثيلات عمودية تعترف بأقصى درجة بملامح صوتية وتمتد لأكثر من قطعة. وشهدت هذه النظرية تطور في 1982م و1984م على يد العالم سيلكيك، الباحثة هل سنة 1996م قامت بعمل جاد في هذه الصدد من خلال عملها (تقنيات التحليل التطريزي)، والباحث روبينز الذي نشر أفكار هذه النظرية وإعطاءها القيمة اللازمة لتصبح أفكار واضحة.
النموذج الثالث (النظرية الأمثلية):
وبين المحاضر أن هذه نظرية لا زالت مجالًا خصبًا للبحث والدراسة والتطبيق على اللغة العربية، ودعا الباحثين إلى الجدية في دراستها كونها نظرية حديثة. وفي مطلع عام 1993م قدم كل من ألان برينس وبول سمولينسكي مخطوطًا يتعلق بنظرية الأمثلية، ولقي اهتمامًا كبيرًا، وانتشارًا واسعًا وعتراف انتشارًا.
وقد وصف تراسك سنة 1996م في معجمه اللساني هذه النظرية بقوله: "إن النظرية الأمثلية هي مقاربة للوصف الصواتي قدمها كل من ألان برينس وبول سمولينسكي، وتبناها مجموعة من اللسانيين في عدة أعمال، يحتل فيها مفهوم القيود دورًا محوريًا. وتقوم على مجموعة من المبادئ التي تخضع لترتيب لساني من داخل كل لغة على الصراع، وتقدم النظرية الأمثلية طرقًا عامة لحسم الصراع للصالح التحليلي الأكثر انسجامًا أو أقل خرقًا للقيود الأكثر أهمية". مؤكدا أن الكونية سمة رئيسه لفهم العلاقات بين مختلف الأنظمة اللغوية مما يجعلها قابلة للتطبيق عبر لغات متعددة.
تطور الدراسات الصواتية عبر الزمن:
اختتم الدكتور زين العابدين محاضرته بالتأكيد على أن الدراسات الصواتية شهدت تطورًا ملحوظًا عبر العصور، بدءًا من الملاحظات الأولية لدى الحضارات القديمة وصولًا إلى التحليلات المعقدة التي تعتمد على التقنيات الحديثة والنظريات اللسانية المتنوعة. وأشار إلى أن هذا التطور المستمر يسهم في فهم أعمق لطبيعة الصوت اللغوي ودوره في التواصل الإنساني، ويفتح آفاقًا جديدة للبحث في مجالات متعددة.
وفي الختام، تجلت لنا في هذه الأمسية العلمية القيمة التي استضافتها أكاديمية بيت اللسانيات الدولية، الأهمية البالغة للدراسات الصوتية والصواتية في فهم طبيعة اللغة وآليات التواصل الإنساني. لقد أضاء الدكتور زين العابدين سليمان بجلاء المراحل التاريخية لتطور هذا الحقل المعرفي، بدءًا من الإرهاصات الأولى في الحضارات القديمة مرورًا بالإسهامات الرائدة للعلماء وصولًا إلى النظريات اللسانية الحديثة ونماذجها المتنوعة.
إن هذه المحاضرة القيمة، بما قدمته من إضاءات وأفكار ثرية، تمثل حافزًا للباحثين والدارسين لتعميق البحث في هذا المجال الحيوي من علوم اللغة، والإسهام في تطويره ورفده بدراسات جديدة تثري المكتبة اللغوية العربية وتخدم فهمنا للغة الإنسانية بشكل عام. فشكرًا لأكاديمية بيت اللسانيات الدولية على هذه الاستضافة الكريمة، وشكرًا للدكتور زين العابدين سليمان على هذا العرض العلمي الماتع والمفيد.
تعليق