بيت اللسانيات بيت اللسانيات

آخر الأخبار[cards]

جاري التحميل ...

الشعر العربي الجديد وجدلية الإبداع والنقد | زكرياء وجيط

  الشعر العربي الجديد وجدلية الإبداع والنقد

أستاذ زكرياء وجيط


 المقدمة

في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، لم يعد بالإمكان التعامل مع الإبداع الأدبي—وخاصة الشعر—بالمفاهيم نفسها التي وجهت مساره لعقود بل ولقرون. لقد أصبحت قضايا الشعر العربي الحديث، بمختلف تجلياته الجمالية والفكرية، في قلب الجدل النقدي والثقافي في العالم العربي، خاصة بعد التحولات السياسية والاجتماعية التي عرفتها العديد من البلدان بعد ما سمي بـ "الربيع العربي". وفي هذا السياق، تأتي محاضرة الأستاذ زكرياء وجيط التي نظمها فريق باحثون التابع لأكاديمية بيت اللسانيات الدولية تحت عنوان: "الشعر العربي الجديد وجدلية الإبداع والنقد"، لتسلط الضوء على هذا التوتر الإبداعي المعاصر بين التحديث الشعري من جهة، والتشبث بالموروث الأدبي من جهة أخرى.

تميزت المحاضرة بتقديم علمي ثري، استعرض فيها الأستاذ المحاضر، بأسلوب تحليلي رصين، أهم الإشكالات التي يثيرها واقع الشعر العربي المعاصر، من حيث بنيته الفنية، وتيماته الموضوعاتية، ورهاناته الجمالية، وكذلك علاقته بالنقد الأدبي الحديث. كما ربط هذه القضايا السياقية بتحولات الذائقة الشعرية العربية، والمفاهيم الشعرية المتجددة التي يسعى الكثير من الشعراء الشباب اليوم إلى بلورتها، في مقابل مواقف تيارات نقدية تقليدية ما زالت تؤمن بقيمة الانضباط للمعايير الكلاسيكية.

استهل الأستاذ زكرياء وجيط محاضرته بشكر القائمين على المنصة، مخصصًا تحية خاصة للأستاذ الباحث محمد قدوري الذي أدار الجلسة، كما عبر عن امتنانه لأكاديمية بيت اللسانيات الدولية التي أتاحت له الفرصة لمشاركة أفكاره وتصوراته مع جمهور من المهتمين والباحثين. وقد أوضح منذ البداية أن مداخلته تندرج ضمن سياق الاحتفاء بـاليوم العالمي للشعر (21 مارس)، وهو يوم يحتفي فيه العالم بالكلمة الشاعرة ويستحضر مكانة الشعر كأحد أعرق وأعمق أشكال التعبير الإنساني.

انطلق الأستاذ وجيط من تجربة شخصية بحثية، حيث أشار إلى أن اختياره لموضوع "الشعر العربي الجديد" يعود إلى انشغاله المبكر به خلال مرحلة الماستر، ولا سيما من خلال دراسته للشعر السياسي بعد الربيع العربي. وقد كشف عن أن هذا الاشتغال البحثي تطور لاحقًا ليصبح جزءًا من مشروعه الأكاديمي في سلك الدكتوراه، والذي يتمحور حول *السيميائيات والتواصل السياسي.

السياق الأدبي والجدل النقدي

قدم الأستاذ زكرياء قراءة تأصيلية لمسألة الشعر الجديد، معتبرًا أن أي محاولة للحديث عن "تجديد الشعر" لا يمكن أن تنفصل عن الإشكال المركزي المتعلق بـ العلاقة بالتراث. فهناك من النقاد من يعتبر أن التجديد ضرورة تاريخية لمواكبة التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفها العالم العربي، خصوصًا بعد 2011، في حين يرى آخرون أن هذه المحاولات التجديدية كثيرًا ما تقع في التفكك والانفلات من الضوابط الجمالية واللغوية التي شكلت روح الشعر العربي لقرون.

وركز الأستاذ على ما أسماه "جدلية الإبداع والنقد"، موضحًا أن هذه الجدلية لا تعني بالضرورة الصراع، بل قد تمثل مجالًا خصبًا للحوار والتكامل. فالإبداع لا يستقيم دون نقد، كما أن النقد لا قيمة له إن لم يكن في خدمة تطوير التجربة الإبداعية. غير أن الإشكال يكمن، حسب المحاضر، في وجود هوّة متزايدة بين بعض التجارب الشعرية الحديثة التي تتسم بالجرأة والانزياح، وبين نقد ما يزال حبيس مفاهيم كلاسيكية ترفض التجاوز وتحذر من "الانقطاع".

مفاهيم الشعر الجديد

سلّط الأستاذ الضوء على مجموعة من المفاهيم الشعرية الحديثة، مثل "قصيدة النثر"، "القصيدة المفتوحة"، "الشعر الرقمي"، و"الشعر ما بعد السياسي"، مؤكدًا أن هذه التجارب تندرج ضمن محاولات لإعادة تعريف الشعر العربي في ظل واقع جديد يفرض تحديات متعددة، من أبرزها: أزمة اللغة، تراجع الإقبال على الشعر، وتغير أذواق المتلقين بفعل التكنولوجيا والإعلام الجديد.

لكن الأستاذ لم ينحُ منحى التمجيد لهذه التجارب، بل دعا إلى قراءتها قراءة متأنية، تميز بين ما هو "تجديد حقيقي" ينبع من رؤية فنية واضحة، وما هو مجرد "عبث شكلي" لا يستند إلى أي مشروع جمالي متكامل. وقد شدد على أن معيار الحكم على الشعر الجديد ينبغي أن يكون هو القدرة على التعبير الصادق والعميق عن هموم الإنسان العربي المعاصر، وليس فقط التميز الشكلي أو الانزياح عن القواعد التقليدية.

موقفه من التراث الشعري

وفي علاقة بالتراث، دعا الأستاذ وجيط إلى ضرورة التفاعل النقدي الخلاق مع التراث الشعري العربي، بحيث لا يكون التراث مجرد مرجعية تُستدعى بجمود، ولا خصمًا يجب القطع معه كليًا، بل مصدر إلهام وتوليد معرفي وفني. فالمبدع المعاصر، في نظره، ينبغي أن ينطلق من "الذات الشعرية العربية"، لكن دون أن يسجن نفسه في قوالب الماضي. بل عليه أن يبحث عن أدواته الخاصة، عن صوته، عن رموزه، عن صوره، عن أحلامه، ضمن سياق العصر.

 الوضع الشعري بعد الربيع العربي

تناول الأستاذ كذلك ما سماه "الشعر بعد الربيع العربي"، مشيرًا إلى أن هذه المرحلة مثلت لحظة انفجار وجداني وإبداعي، حيث برزت العديد من الأصوات الجديدة التي عبرت عن الألم، الخوف، الأمل، والخذلان، في ظل تحولات سياسية عنيفة. واعتبر أن هذه المرحلة ينبغي أن تُدرس كتحول حقيقي في بنية الوعي الشعري العربي، لأنها كشفت عن مدى تداخل الشعر مع قضايا الهوية، والسياسة، والحرية، والانتماء.

 الخاتمة

لقد شكلت هذه المحاضرة العلمية الغنية مناسبةً لطرح أسئلة عميقة حول مصير الشعر العربي في العصر الحديث، وموقعه داخل المشهد الثقافي المتغير. وبيّن الأستاذ زكرياء وجيط أن "جدلية الإبداع والنقد" ليست صراعًا ثنائياً مغلقًا، بل هي مجال مفتوح للإنتاج والتفكير والتفاعل. فالحداثة الشعرية ليست نهاية للتراث، كما أن التقاليد الأدبية ليست عائقًا أمام التجديد. بل إن ما ينبغي التطلع إليه هو مشروع شعري عربي معاصر قادر على الانخراط في تحولات الواقع، دون التفريط في الجذور التي تمنحه عمقه وانتماءه.

التوصيات

1. تشجيع الدراسات النقدية المتخصصة في تحليل الشعر العربي الجديد، وربط تطوراته بتحولات الواقع العربي المعاصر، خصوصًا بعد الربيع العربي.

2. فتح حوار دائم بين الشعراء والنقاد، من خلال ندوات وورشات أدبية، لتجاوز الفجوة القائمة، وتعزيز الفهم المتبادل بين الطرفين.

3. دعم التجارب الشعرية الشابة من خلال النشر، التأطير، والمواكبة، مع التركيز على بناء رؤية جمالية متماسكة بدل السقوط في التجريب العشوائي.

4. إعادة إحياء قراءة التراث الشعري في ضوء الأسئلة المعاصرة، والبحث فيه عن عناصر قابلة لإعادة التوليد والتفاعل مع قضايا العصر.

5. الانفتاح على الأدوات النقدية الحديثة، خاصة تلك المستمدة من حقول السيميائيات وتحليل الخطاب، لفهم الشعر من زوايا جديدة تتجاوز التصنيف التقليدي.

6. إدماج الشعر في الحياة الثقافية العامة، من خلال مبادرات تعليمية، ومهرجانات شعرية، ومنصات تفاعلية رقمية، تعيد للشعر مكانته في وجدان الناس.

عن الكاتب

بيت اللسانيات | Bitlisaniyat

التعليقات

تعليق


اتصل بنا

من أجل البقاء على تواصل دائم معنا ، قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في موقعنا ليصلك كل جديدً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

بيت اللسانيات

2025