حركة الاستشراق بين السلبيات والإيجابيات
تقرير الميلودي المؤذن
يومه السبت 8 فبراير 2025 وعلى السابعة مساء بتوقيت المغرب، نظم فريق اللسانيات والإنسانيات المنضوي تحت أكاديمية بيت اللسانيات الدولية محاضرة علمية بعنوان «حركة الاستشراق بين السلبيات والإيجابيات». من تقديم الدكتور إبراهيم عوض أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس، فيما تكلف الأستاذ عبد الرحمن شريفي علوي رئيس فريق اللسانيات والإنسانيات بالتسيير.
استهل الأستاذ المسير المحاضرة بالسملة والصلاة على النبي، ثم حمد الله على أن أعز مقاومي غزة، وأذل الصهاينة الغاصبين، مرحبا بضيفه الكبير؛ الأديب والناقد، والمفكر الإسلامي الدكتور إبراهيم عوض. وناقلا بعض أعماله ومنها: مقاربة أسلوبية في مصدر القرآن، ودراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحي الإسلامي، وفي تحليل النص القرآني دفاعا عن الكتاب الكريم. وغيرها. ثم بعد الإطراء على الضيف الكريم، والترحيب به وشكره، مرر له الكلمة.
بمجرد تناوله الكلمة، تساءل الدكتور المحاضر هل هناك من سؤال؟ فرد عليه المسير بأن الأسئلة ترجأ لنهاية المحاضرة. لكن الدكتور المحاضر أشار إلى أنه يفضل أن تكون المحاضرة تفاعلية؛ على شكل سؤال ـ جواب. لتفادي الرتابة والملل، وكذا ثقل الإلقاء المباشر. واقترح أن يكون المسير دليله في ذلك.
رد المسير بأنه ليس هناك أدنى ملل أو رتابة. فطرح أول نقطة وكانت تتعلق بأن الكثير من المفكرين والباحثين العرب يعتبرون أن لا خير في الاستشراق، بل كله شر، وأنه في كنهه حملة صليبية، تشكك المسلمين في مقدساتهم، لكن هناك فريق آخر يرى العكس، ويقر للاستشراق بالعديد من الإيجابيات. وطلب من الدكتور المحاضر أن يتفضل بتقديم إضاءة حول مفهوم الاستشراق أولا، والكشف عن دواعيه ثانيا، فضلا عن التعريف ببعض المستشرقين، وإبراز دورهم في الساحة العلمية والأدبية عند العرب، مع تسليط الضوء على المصطلحات التي تؤثث عنوان المحاضرة.
هنا تدحل الدكتور إبراهيم عوض للرد على هذه الأسئلة. حيث قال بأنه مطلع على الكثير من كتب المستشرقين، وبأنها إجمالا تقدم معرفة واستفادة كبيرة وإن كانت تبطن شرا مستطارا. وأنه شخصيا قد تعلم الكثير منها، ضاربا لذلك مجموعة من الأمثلة بمواقف وسلوكات عاشها شخصيا مع مسشرقين أو مع كتبهم، سواء في الغرب عندما كان يحضر لنيل الدكتورة في إنجلترا، أو في جامعات بلده مصر. متسائلا عن أسباب ضعف القراءة في العالم العربي عكس الغرب.
ثم انتقل لتعداد سلبيات الاستشراق، ومنها: الهجوم على النبي الكريم، واتهامه بأخذ القرآن عن الكتاب المقدس. لكنه فند ذلك كله وأتى بحجج من القرآن نفسه تبين بالملموس عكس ما ذهبوا إليه. كما بين أن الرسول (ص) كان أميا لا يكتب ولا يقرأ فكيف ينعتونه بتأليف القرآن أو النقل من كتابهم المقدس، فهذا يتنافى من المنطق والحجة التي يدعون أنهم يتعاملون بها. عارضا لبعض قصص القرآن مثل قصة سيدنا سليمان عليه صلوات الله، حيث بين زيف قصة الكتاب المقدس مقابل صحة القصة التي ذكرت في القرآن الكريم.
ونقل خلال حديثه عن خبث المستشرقين وكرههم للقرآن وأهله، كلام الرئيس الأمريكي ترامب وحلفائه عن غزة وسكانها، وكيف انقلبوا على اتفاق غزة وحبره لم يجف بعد، في إشارة بأنهم يخلفون الوعود دون سابق إنذار، وأن هذا موجود في القرآن. ثم ضرب مثلا لذلك بريجي بلاشير المسشرق الفرنسي المعروف، وعرض في ذلك قصة له مع وزير ثقافة مصري زمن عبد الناصر؛ حيث وجد أن هذا الوزير كان يثني كثيرا على هذا المستشرق عندما ترجمته له. وهذا رغم إساءة بلاشير للقرآن من خلال ترجمته السيئة وسوء تعامله مع القرآن. واسشتهد على ذلك بإيراد قصة بلاشير مع سورة القمر التي ادعى أنها ناقصة بسبب حذف آيتي (الغرانيق العلا)، حيث ادعى بلاشير بأن السورة كانت تحتوي على الجملتين (أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى...) في القصة المشهورة. هذا الفعل وصفه المحاضر بأنه خطير جدا ويمس بقدسية القرآن الكريم. ثم أورد ردا قويا دحض من خلاله ادعاءات هذا المستشرق الباطلة، من خلال قراءته الأسلوبية للجملتين المذكورتين.
تناول الكلمة مسير الجلسة ليعرج على أعمال رائد الاستشراق المشهور، الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، مستحضرا نظرته الخاصة حول الاستشراق، كونه يمثل خيرا للغرب أكثر ما هو خير للعرب. وعرض سؤالا: كيف تطورت نظرة المستشرقين للحضارة الإسلامية؟
أجاب الدكتور عوض من خلال استحضار قصة المفكر المعروف أحمد فارس الشدياق الذي خالط المستشرقين وعرفهم عن قرب، لأنه كان نصرانيا. والغريب أنه عرف بذمه لهم، ووصفهم بأشنع الأوصاف، كالخديعة والمكر والخبث، لكنهم بالمقابل يتميزون بقوة الصبر والتحمل من أجل بلوغ غاياتهم مهما كانت بعيدة، خاصة ما تعلق بتلقي العلم والمعرفة، وهو ما يفتقده العرب. ثم ذكر المحاضر أن بعض المستشرقين يصيبهم الغرور أحيانا، فيرفضون كل من يراجعهم أو ينتقدهم، مستحضرا قصة له مع أستاذ مستشرق شاب كان يدرس تفسير القرآن. وكان لا يقبل أن يناقشه أحد فيما يأتي به من معلومات وأفكار.
تناول المسير الكلمة ليتساءل عن أحد مؤلفات الضيف وهو كتابه: «المتنبي بإزاء القرن الإسماعيلي في تاريخ الإسلام». وهو ترجمة لكتاب المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي نال شهادته في الدكتوراه عن بحث حول المغرب.
رد الدكتور المحاضر بأن سبب اهتمامه بهذا الكتاب هو أنه كان قد وجد أن ماسينيون وغيره يدعون بأن الممتنبي قرمطي وليس مسلما. فتتبع الأمر ووجد بحثا لذات المستشرق بخصوص المسألة هذه، فقرأه، وعلق عليه، بل وألف حوله كتابا من مئة صفحة يرد على أقوال ماسينيون. وخلص من خلاله إلى أن المستشرقين شياطين لكنهم متحضرون كثيرا. وأنهم يبيتون كرها وخبثا للإسلام وأهله. وذكر أيضا بأنه يحكي عن حياته وتجاربه الخاصة مع المستشرقين، سواء من عاشرهم شخصيا أو من قرأ لهم.
أخذ الأستاذ المسير الكلمة لينقل تعليق أحد المتتبعين، وهو الدكتور نبيل رفاعي عضو الفريق حول الهدف من الاستشراق ـ الذي كان في رأيه ـ أول الأمر سياسيا ثم انقلب عقديا ثم بعد ذلك شمل الفنون الأخرى.
أما جواب الضيف المحاضر فكان بالإيجاب، ثم استطرد قائلا بأن الاستشراق قد خدم العرب والعربية من دون قصد. فالمستشرق وإن افترضنا أنه لا يضمر شرا لنا، إلا أنه لم يكن ينوي خدمتنا أو الإحسان إلينا مطلقا. وإن كان هناك القليل من المستشرقين أصحاب نيات حسنة نوعا ما. حتى إن بعضهم ليعجب بالقرآن وبالإسلام فيؤمن ثم يتحول إلى الإسلام. لهذا فإننا نستفيد منهم عرضا. ذلك لأنهم أهل إجرام، حيثما حلوا حل معهم الخراب. ويعود ليضرب مثلا بالرئيس الأمريكي ترامب مستحضرا ما فعله أجداده بالهنود الحمر، وهو الأمر الذي يحاول تكراره في قطاع غزة اليوم.
تدخل المسير معلقا على تعليقات المتتبعين الذين ـ في رأيه ـ يكيلون الاتهامات والأحكام الجاهزة، موجهين سيوفهم صوب الاستشراق وأهله دون تمييز بين النافع منه والضار. قبل أن يبين أن الأمر يجب أن يؤخذ بنوع من الاعتدال والوسطية؛ بمعنى نأخذ منهم الصالح وندع الطالح الذي يحمل شرا. بل علينا ـ مردفا ـ أن نقارعهم الحجة بالحجة سيرا على خطى أدوارد سعيد، وإبراهيم عوض، ومالك بن نبي، والسباعي، وطه حسين وغيره..
رد الضيف المحاضر بأنه هو نفسه كثيرا ما قرأ للمستشرقين، وأنه استفاد منهم، وأنه يستطيع أن يتصدى لمؤامراتهم ودسائسهم فيردها عليهم. ويبرر موقفه بكون المستشرقين ذوي حضارة كبيرة وعلم متطور يفرض علينا أن نستفيد منهم، مثلما استفادوا منا هم أيضا يوما ما. خاصة وأن مجتمعاتنا العربية أصبحت اليوم عاجزة عن إنتاج مثل ما ينتجون بل صارت مجرد مجتمعات سلبية تستهلك فقط. وأن الإنسان العربي لا يقرأ ولا يستخدم عقله في غالب الأحيان، وإنما هو مطمئن لكل ما يأتي من الغرب. ويستشهد بقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: "لدى العرب القابلية للاستعمار". مضيفا أن العربي أصبح يشعر بالدونية والمهانة والذل.
استعاد مسير الجلسة الكلمة ليؤكد كلام المحاضر بخصوص مالك بن نبي، ويعززه بقولة أخرى: "الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها"، قبل أن يعود للتعليق على بعض تعليقات المتتبعين الذين يجحدون بقوة كل حسنات الاستشراق، ولا يرون له يدا واحدة بيضاء، مضيفا لا يحق لنا أن نرفض كل ما قدمه المستشرقون هكذا عبثا دون قراءة ولا بحث ولا تمحيص. ويواصل كلامه معرجا على ظاهرة الاستغراب، متحدثا عن أن العرب لم يكونوا يعرفون غير الشعر. وقد استعاروا كل العلوم الأخرى من الغرب، بما فيها الرواية، والقصة، والمسرح، والمناهج النقدية، واللسانيات. بل حتى تطوير الشعر نقلوه عنهم.
أخذ الدكتور المحاضر الكلمة ليرد على كلام المسير قائلا بأن العرب ـ على العكس من ذلك ـ كانوا سباقين إلى معرفة كل تلك المعارف التي ذكرها المسير. وتحدث عن الأمثال، والخطب، والقصص، وإن كانوا يتناقلون هذه المعارف مشافهة فقط، ولم يكونوا يدونونها إلا نادرا. كما أنهم ـ يواصل ـ عرفوا أشكالا من الرواية كالسيرة الشعبية: سيرة عنترة وسيرة بيبرص. مضيفا بأن الغرب قد استفادوا كثيرا من قصصنا الشعبية ونقلوها وطوروها. وكما أخذوا عنا، جاء الوقت لنأخذ نحن أيضا عنهم. وإن كنا لا نقل عنهم إبداعا مستشهدا بأن كتب الشروح الشعرية أو التفاسير تحمل ثروة لغوية هائلة، وتضمر مناهج نقدية كالأسلوبية، والتناص ممثلا في التضمين، والاقتباس، والسرقات، وغير ذلك.
بعد ذلك عاد الدكتور المحاضر للسمتشرق بلاشير وقصته مع ترجمة القرآن، ليشير إلى أنه دس السموم والخبائث خلال ترجمته. ولكن رغم مكره فقد خدم القرآن من حيث أراد الإساءة إليه. وهنا دعا إلى ضرورة الرد على كتابات المستشرقين، والتنبيه على خروقاتهم ومكائدهم. وهو ما يمكننا بلوغه بالاجتهاد، والتعمق، والتدقيق.
عرض المسير سؤال أحد المتتبعين: ما هو دور الاستشراق في تطوير الحداثة السائلة؟
رد الضيف المحاضر قائلا: أرى الجميع يتساءل عن الحداثة مرددين أقوال النقاد الغربيين. لكنه رفض ذلك وقال بأنه لا يقبل بالحداثة السلبية، الداعية إلى التحلل الأخلاقي، والحرية الجنسية. وأنه مع الحداثة الطيبة التي تحترم إنسانية الإنسان.
أخذ الكلمة الأستاذ المسير ليعرض آخر سؤال للمتتبعين بخصوص كتاب كارل بروكلمان «تاريخ الأدب العربي»، وعلاقته بباقي الكتاب العرب الذين اهتموا بتاريخ الأدب العربي أمثال شوقي ضيف، والزيات، وغيرهم.
قال الضيف المحاضر بأن بروكلمان لم يزد على أن كان مسجلا فقط. يتنقل بين المكتبات فينقل بها ثم ينسق ذلك. وفي كل المجالات المعرفية، وليس فقط في الأدب. بحيث يشير إلى أهم الكتاب والمؤلفين، ثم يذكر أهم إنتاجاتهم في كل عصر قبل أن يعلق عليها تعليقا قصيرا. أما غيره من مؤرخي الأدب العربي أمثال الفاخوري، والزيات، وشوقي ضيف، وبطرس البستاني، فكانوا يؤرخون للأدب بمعناه الحقيقي. وليس مجرد الكتابات الأدبية، أو الأدبيات كما كان يفعل بروكلمان. ثم ذكر بأنه قد رد على المستشرق لويس شيخو الذي اهتم بدراسة الأدب العربي، وخاصة الحقبة الجاهلية. وبين ما لها وما عليها.
عرض المسير آخر سؤال: ما أبرز إسهامات المستشرقين العلمية حول اللغة العربية والدراسات الإسلامية؟ مع الاستشهاد لو أمكن ببعض هذه الإسهامات وأصحابها.
خلال رده لم يستطع المحاضر تذكر كتاب اهتم صاحبه بتاريخ العربية من الجاهلية إلى العصر الحاضر، وقال عنه بأنه كتاب قيم ومشهور وفيه عمل جبار، لي يسبق إليه، لكنه لم يستطع تذكر عنوانه ولا اسم صاحبه. مقدما عذره عن ذلك.
وهنا ختم المسير الجلسة، شاكرا لضيفه، مثنيا عليه، متمنيا له طول العمر، مذكرا بخصاله الحميدة، ومبادئه الجميلة، ودفاعه القوي عن غزة وأهلها. دون أن ينسى شكر الدكتور محمد المنشاوي الذي كان سببا في تنسيق هذا اللقاء الممتع مشكورا. كما جدد شكره الكبير لكل جنود الخفاء الذين أسهموا في نجاح هذا المحاضرة الشيقة المفيدة.
وفي الأخير تقدم الدكتور ابرهيم ضيف بكلمة أخيرة عبر فيها عن شكره وامتنانه لأكاديمية بيت اللسانيات وكل المشرفين عليها. كما جدد دعوته لكل المتابعين للقراءة والبحث.
تعليق