"من الضروري أن يتخلى المرء عن التفكير في أن هدف دراسة الكذب لسانيا إلغاء الكذب من اللغة، على غرار هدف الدين والأخلاق اللذين لا يخفيان سعيهما نحو هذا الهدف البعيد المنال، بل إن هذا المبحث يرمي إلى تفسير آليات مخاتلة اللغة وجعلها تخفي الأفكار وتلبسها، حيث كان يفترض أنها تظهرها وتعكسها كما تفعل المرأة، وكما اعتقدت البشرية لعدة قرون، ليس الذنب ذنب اللغة فهي أداة تخضع ككل أداة لمآرب مستعمليها ، بل يقع اللوم عن التقصير على كاهل اللسانيات التي كان عليها أن تفكك آليات الصدق وآليات الكذب وألا تتعامل مع هذه المسألة الكبرى" كما كان يراها أوغسطين بمنطق النعامة".
ألفت عيون القراء وأقلام الكتاب تناول مسألة الكذب من وجهة النظر الأخلاقية الدينية أو الفلسفية، فمن منا لم تقرع أبواب ذهنه موعظة مكتوبة أو مسموعة صريحة أو مضمنة تنقد الكذب وتذمه وتعدد محاسن الصدق وتمنحه فتاك سبيل مبتنل تناوله القدامى والمحدثون بطرق شتی مدعوما بنظريات نفسية أو اجتماعية أو حتى تعليمية أحياناً. في المقابل، لم تتناول مسألة الكذب هذه من الناحية اللغوية الصرف أن وإن كانت ثمة بعض الملاحظات المبثوثة في كتب الأولين لا ترقى إلى مستوى النظرية. ويبدو أن أول من ألف مصنفاً يطرح فيه نظرية لسانية متكاملة في الكذب هو الألماني هارالد فاينريش H. Weinrich». وعنوان الكتاب: Linguistik der Lüge ويعني حرفيا: لسانيات الكذب .
يقول فاينريش: الكذب موجود في الكون. وهو موجود فينا ومن حولنا، وكان يفترض أن يقول إن الكذب موجود في اللغة، يولد من رحمها كما تولد الدودة داخل الفاكهة. وقد واكب الكذب اللغة فوجد حيث وجدت اللغة البشرية ومتى وجدت.
وما كانت الأديان لتؤكد تحريم الكذب واصفة إياه بالعيب والقبح لو لم يكن الإنسان مجبولاً بطبعه على الكذب. وكأنه يجدر بنا أن نغوص في تعريف الإنسان الشهير بأنه حيوان ناطق بتعريف أشد سلبية ولكنه أقرب إلى واقع التواصل وينم عن معرفة جيّدة بطبيعة البشر: الإنسان حيوان كاذب». هكذا كان يقول القديس أوغسطين»، كما جاء في كتاب «فاينريش».
السؤال الرئيسي الذي يمثل الجواب عنه عقدة المقاربة اللسانية للكذب هو التالي: هل بإمكان الكلمات إخفاء الأفكار؟ وإن كان ذلك ممكناً فكيف تتستر اللغة على الأفكار؟
لقد اعتادت البشرية في تعريفها اللغة تعريفاً أصبح بدهياً أقرب إلى المصادرة على تقديم اللغة باعتبارها جسر تواصل وأداة تعبير عن الأفكار.
ولكن التحليل اللساني المتأني والنظر بدقة في ثنايا هذه العلاقة يدعونا إلى إعادة النظر في هذا الاعتقاد الساذج والتساؤل عن مدى تساوق اللغة مع التفكير والألفاظ مع الأفكار. وحتى إن رمنا الوقوف موقفاً وسطاً بين المتفائلين القائلين بأن اللغة مرآة تعكس الفكر وتظهره على ما هو عليه وبين المتشائمين الذين يرون أن اللغة تلبس الفكر وتخفيه ، معتبرين أنها محايدة بريئة من زيغ البشر تتماشى باعتبارها أداة موضوعية مع الوجهة التي توجهها والاستعمالات التي تستعمل فيها ، فإننا لا نسلم تماماً. فثمة وجهات نظر لا تضع اللغات على الدرجة نفسها من الحقيقة ، فتقيم سلمية بين اللغات التي وضعت لقول الحق - بعضها مقدّس - وبين اللغات التي اشتهرت بقدرتها الفائقة على الكنب وبتهيؤ هياكلها وبناها لهذه المهمة. وحتى في هذه الحالة، يظل الإشكال قائماً في مستوى التعبير. فهل يكتب مستعملو هذه اللغات باستعمال الكلمات وعندها تكون الكلمات كاذبة أو باستعمال الجمل أو باستعمال وسائط أكبر ؟ كانت تلك بعض الأسئلة التي حاول فاينريش» الإجابة عنها.
شملت معالجة الكذب اللُّغوية البلاغة بوصفها طريقة خاصة في القول. وخصص «فاينريش» مبحثين مهمين تناولا أسس المجاز والكناية والسخرية التي أدرجها ضمن آليات الكذب بحسب تعريفه له. وقد يكون اقتران الشعر بالكنب قائما على طغيان المجاز على الشعر
أما تحليل السخرية من وجهة النظر اللغوية باعتبارها وجها من وجوه الكذب فذلك يعد من طرافة عمل «فاينريش» ويحسب له. فالسخرية تتلخص في رباعية يتقاطع فيها السلب والإيجاب بين الباث والمتلقي : أنا أقول عكس ما أفكر به وعليك أن تفكر بعكس ما أقوله.
دأبت البشرية منذ الشاعر اليوناني «هوميروس» وربما في ما سبقه من الكتابات الأدبية السومرية ببعدها الأسطوري - على الموازاة بين الخيال والكذب. وعادة ما يُقبل عقد الكتابة الإبداعية بفصل المحكي عن الواقع أو بتكييف السامع أو القارئ - لمنطق الكون الملموس كي يتماشى مع منطق الكون المتخيل. يعرف البعض الكتب بأنه قول غير الحقيقة. ومن يقول غير الحقيقة كاذب. لكن هذا التعريف لا يفي مفهوم الكذب حقه ولا نراه دقيقاً. فكم من قول مجانب الصواب لا نعتبره رغم ذلك كذبا، بل قد يعتقد قائله إنه الصواب عينه. لذلك وجب التنصيص في تعريف الكتب على نية الخداع ، أي على أن المتكلم يتعمد قول غير الحقيقة ويوهم بعكس ذلك. لماذا لا يرى القارئ ضيراً إذا في اعتبار صخر» أسداً أو في أن تبتلع سمكة سردين مدينة بأسرها؟ لماذا لا يرى فيها كذباً وخداعاً؟ لأن الكذب الأصلع الصريح وغير المراوغ جزء من العقد لا يوهم يقول الحقيقة وإن أقسم أنه لا يقول غيرها. بل كلما أمعن في الكتب وأوغل فيه كلما ازدادت حلاوة القول واشتدت الرغبة في الاستزادة.
للكذب علامات من البديهي أن "فاينريش لم يهتم بعلامات الكذب الجسدية أو النفسية على غرار ما سعت إليه الدراسات الكلاسيكية من احمرار في الوجه واختلال تواتر دقات القلب أو حتى تسارع نسق التلفظ، فإلى جانب تلك الإشارات الجسدية والنفسية التي يمكن قياسها والتفطن إليها بالحس أو بآلات كشف الكذب يقول لنا "فاينريش» إن للكذب إشارات لغوية تدل عليه. ويستطيع المخاطب الذي يتفطن إلى تلك الإشارات أن يدرك إذا ما إذا كان المتكلم يقول الحقيقة أو يحيد عنها، لا تتعلق إشارات الكذب بالألفاظ ولا بالجمل فهي لا تنتمي إلى علم التركيب ولا إلى علم الدلالة، بل إلى خاصيات نصية وعلامات فوق جملية تجعلها ذات طبيعة تداولية، لكن ليس من أهداف التحليل اللساني التعرف إلى إشارات الكتب قصد كشف الاعيب اللغة وإلغاء الكذب من الكون. فالكذب كما أسلفنا محايث للغة وإذا كان لا يكون إلا بها فهي لا تكون إلا به أيضا. فهل يمكن أن تتخيل الإنسانية دون مهربي الكذب والرياء )
من الضروري أن يتخلى المرء عن التفكير في أن هدف دراسة الكذب لسانيا إلغاء الكتب من اللغة، على غرار هدف الدين والأخلاق اللذين لا يخفيان سعيهما نحو هذا الهدف البعيد المنال. بل إن هذا المبحث يرمي إلى تفسير آليات مخاتلة. اللغة وجعلها تخفي الأفكار وتلبسها ، حيث كان يفترض أنها تظهرها وتعكسها كما تفعل المرأة وكما اعتقدت البشرية لعدة قرون. ليس الذئب ذنب اللغة فهي أداة تخضع ككل أداة المارب مستعمليها ، بل يقع اللوم عن التقصير على كاهل اللسانيات التي كان عليها أن تفكك آليات الصدق وآليات الكذب وألا تتعامل مع ها المسألة الكبرى، كما كان يراها أوغسطين بمنطق النعامة.
إن إشارات الكذب التي ينبه فاينريش إلى ضرورة قراءتها وحسن تأويلها تفيد في تقفي الكذب وتحديد مجالاته بغرض در الخلط بينه وبين ما يتواضع عليه المؤلف والقارئ حيزاً الانسياب الخيال وامتداده. ولكن تحليل الكلب لسانيا لن يلغيه من العالم ولن يقلص سلطانه . بل إن أقصى مستطاعه إنما الإمساك بالمقومات اللسانية التي يبنى عليها الكذب أولا وأخيرا. أنا الثقافة العربية فإنها حسب علمنا قد أهملت هذا الجانب من المسألة، فما يعرف بعلم معرفة الرجال أو علم الجرح والتعديل لم يتطرق إلى القضية من الناحية اللغوية، بل من وجهة النظر الفقهية، إذ يعرف بأنه علم يحتاج إليه في اثبات الإستاد ومدى صحة الحديث وفي التحقق من الروايات ومعرفة مراتبها بالبحث في أحوال الزواة خاصة. وقد فضل القول في مراتب الرجال تصنيفاً يقوم على تدرجات في الرفض (الجرح)، نحو الدجال، والكتاب، والوضاع. والمتهم بالكذب، والمدلس، والمتروك، والواهي الضعيف .... من جهة، والقبول (التعديل)، نحو الثبت، والحجة، والثقة، والصدوق، والمقبول ...... من جهة أخرى، إلى جانب فويرقات عديدة تختلف باختلاف الفقهاء. ولما كانت طريقة ضبط هذه السلمية تقوم على معايير شخصية أو اجتماعية وتاريخية . فإننا لا نراها تدخل ضمن المعالجة اللغوية للصدق والكذب.
ويبدو أن النظرة العامة للكذب والتجربة المتصلة به وكذلك ما ترشح به اللغة ويستشف من استعمالاتها للألفاظ لا تتفق تماما مع التصنيفات الفقهية وبخاصة التقويم الإقصائي، وهو أمر بديهي إذ يقوم التشريع مبدنيا على التمييز بين ما التبس من أمور الدنيا وعسر الفصل في دقائقها، وهذا اللبس تؤكده ازدواجية قطبية الاستعمالات اللغوية للألفاظ الدالة على الكتب وهي تتحرك ضمن مجال واسع بين السلب والإيجاب وبين الحسن والقبح وبين النور والظلمة، إلخ. يصل حد التضاد.
تحتفظ أعمق طبقات اللغة العربية بتقييم للكذب تطغى عليه الإيجابية. في حين يذهب الحدس إلى افتراض غلبة الصفة السلبية، وتكفي نظرة عامة في ما جمعته المعاجم لتبديد الأفكار المسبقة
لأن أكثر اللغة لا تدين الكلب. فلماذا لا نوافقه؟»، مثلا قطبية ايجابية واضحة الإنسان الحسن الخلق الفكه النفس الطيب الكلام. وهو العسل . وتفيد المادة ثانويا الكذب: ماذ الرجل إذا كذب، كما تعني لفظة الخلابس : الحديث الرقيق، والكذب. وهو ما يفيده كذلك الزخرف في بعض معانية. الزخرف: الذهب. وكمال حسن الشي. وزخرف من القول: حسنه بترقيش الكلب، ويشير الطراد استعمال ألفاظ ذات قطبية إيجابية للإشارة إلى الكتب استصلاح العرب لهذا الضرب من القول، فلا تعجب أن تستعمل ولع، إذا بهذا المعنى : الواقع وشی کلامه كذب فيه أما الكذاب .... وقالوا: حديث خرافة، أو هي حديث مستملح كذب». وكذلك النم ... تزيين الكلام بالكذب، مثلما يوشى الكلام ببعض الأكاذيب سرج فتشير كما هو معروف في صيغة فعال، أي «سراج». إلى الشمس والمصباح، ويفيد فعل سرج : حسن وجهه، وكذب. ويعني السراج: الكذاب». ونجد الشيء نفسه بالنسبة إلى عبقر»، حيث تعني كلمة «العبقرة» اتارة الجميلة ويفيد العبقري الكامل من كل شيء. والسيد، والذي ليس فوقه شيء"، إلى جانب الكذب الخالص ». وهكذا تتقاطع هذه النظرة الإيجابية للكذب وصفة العذوبة التي يوصف بها أكذب الشعر كما تتقاطع مع النظرة اليونانية القديمة مجسمة في ما كان يقوله هوميروس عن عبقرية من يجيد الأكاذيب وأن إجادة الكذب لا تتأتى العامة الناس. وليست أسطورة "وادي عبقر» عند العرب سوى تجسيم لهذه النظرة التي تقرن الكذب بالإبداع. فمن اللافت أن تستعمل زور» في معان غير منتظرة من قبيل التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته» و «التزوير التزويق والتحسين. وزورت الشيء: حسنته وقومته و كلام مزور أي محسن». بل يدفع الاستعمال إلى حدود الحفل الدلالي ليرادف البطل الذي سنتناوله في وحدات معجمية أخرى. فيشير زور القوم وزويرهم إلى سيدهم وراسهم، وليس أشد دلالة على اقتران هنين القطبين من استعمال العربية لمادة لمع»، حيث يشير اليلمع إلى البرق الخلب، والسراب، ويشبه به الكذاب، أما الألمع والألمعي والبلمعي فتستعمل للإشارة إلى النكي المتوقد». وتلك وجهة نظر تتضارب والتوصيف الأخلاقي الذي يدين الكذب ويدفع به ضمن القطبية السلبية باعتباره تنبا وخطيئة. لكن ذلك لا يفسر التنافر الذي نراه في الاستعمال. ولا يمكن أن نركن لهذا الاستنتاج المبسط، إذ غالباً ما تردف تلك الصفات المستحسنة بمضاداتها. فالتم يعني إفساد الحديث إلى جانب تزيين الكلام بالكتب: أي النميمة، فيكون بذلك مرادفا وموازيا للوشاية في المعنى السلبي" والوشي في المعنى الإيجابي، أما الخلابس فهو يعني الحديث الرقيق»، كما أسلفنا، لكنه يعني أيضاً الباطل، و الكلام الذي لا نظام له ولا يجري على استواء». والخلابس هم الليام والأنفال كما تشير العبقرة إلى الثارة الجميلة ولكن المادة تستعمل أيضا للإشارة إلى تلالو الشراب وخداعه. وفي الاتجاه نفسه تستعمل العربية الزهو بمعنى المنظر الحسن ، والنبات الناضر . ونور النبت، وزهره وإشراقه .... إلى جانب الكذب». لكن «الزهو» يشير أيضا إلى الباطل. وتذكر كذلك الخزعيل: الأحاديث المستظرفة إلى جانب الخزعبل : الباطل». وكل ذلك يحيلنا إلى قطبيتي استعمال مادة بطل» بين البطل (البطولة) والباطل (البطلان).
إلا أننا لن نستطيع فهم تصور العرب للكذب دون حل شفرة هذا التنافر وتفكيكه. وأول ما يجدر بنا التنويه إليه أن هذا التضاد الظاهر ليس تناقضاً في الاستعمال بقدر ما هو تجل لخاصية الازدواجية المقترنة بالكذب اللمعان والتحرك والتلون وعدم الاستقرار تختزلها صورة السراب في بياضة باعتباره المعنى الأساسي لمادة كذب» (بدلاً من كذب »): البياض في أظفار الأحداث .... والمكذوبة المرأة النقية البياض .. واضطرابه وعدم ثباته على حال . وليس ثمة شيء أحسن من السراب تمثيلا عن الخداع والمغالطة بتزيين الكذب لإظهار غير الحقيقة أو الإخفاء بواطن الأمور وتختزل صورة السراب نفسها في عبارة التمويه سيلانا وطلاء " وتلوينا واضطرابا ولمعانا، ولنا في بعض مرادفات الكتب كالتدليس نهج يسمح بتقفي مراحل توليد معنى الكتب المجرد من خلال مجازات وصور ملموسة الفلس: الظلمة، كالتلسة واختلاط الظلام .... ومالي دلس خديعة، والتدليس : كتمان عيب السلعة عن المشتري .... والتلس : التكتم. تقوم الخديعة على مفارقة: الزيادة التي تخفي النقصان. فللكذب قطبان متقابلان ينجز مرة بالزيادة والمبالغة في إظهار ما ينبغي إخفاؤه ومرة بالنقصان وحذف العيوب التي لا يستحسن أن تظهر هنا الاضطراب وعدم الاستقرار على حال (ضنا للثبات والاستقامة، أي التحول الدائم والاعوجاج) هو الرحم الذي انبنى عليه مجاز السراب والخديعة. ولن تكتمل معالجة الكتب لغويا دون التعريج على إحدى إشارات الكذب وعلاماته متمثلة في الخلط والتناقض نتيجة عدم الثبات لضعف في العقل فشفش»: ضعف رأيه، وأفرط من الكتب والألس: اختلاط العقل، والخيانة. والغش، والكذب .... والجنون والهبل اهتيل: كذب كثيرا أو في الذاكرة الهتر الكتب. والسقط من الكلام والخطأ فيه وذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن، وقد أهتر .... والتهاتر حيث الشهادات التي يكتب بعضها بعضاً). ينتج عن كليهما تداخل مشين في المسالك والمستويات. وفي هذا السياق ، تضيف مادة دلس» معنى لافتا إلى جانب التغطية والتعبية تعني به الاختلاط. وهو معنى محوري تقترن به قطبية سلبية في العربية شديدة الوقع والتأثير لنا يمكن أن يقبل الكتب الخالص الصراح، كما يستحن الصدق وتناسقه، ولكن لا سبيل إلى خلط كتب بحق.
لا بد إذا من إقامة تواز بين اتجاه التوسع الدلالي هذا والاتجاه الذي يناقضه ، إذ كما يولد الاعوجاج (10) والاضطراب وعدم الثبات الخلط يولد التساوق والاستقامة الصفاء والخلوص.
وإذا كان الزيف والزور من الاعوجاج والميل والدوران تمثيلا آخر عن البنية الذهنية التي يقوم عليها الكتب، يفترض أن تتكفل الاستقامة والصفاء ببناء قواعد الحق والصدق ذلك أن العربي، بقدر ما يرى ظرفا في الكتب الذي يكشف عن إشاراته ويعرضها، ينكف من الكتب الذي يسعى إلى إخفائها فتتكشف رغما عن صاحبها في مثل هذه الحالة، يعتبرها العربي عثرة ويستعمل فعل معشر في معنى كذب. وهي صورة تظهر سامعا يتلقى أثار الكتاب ويتتبع إشارات خافتة لا تبدو ظاهرة من الوهلة الأولى، خلافاً للخطاب الإبداعي الذي يكون فيه العقد واضحا منذ البداية.
كلما كانت إشارات الكتب واضحة والمبالغة غير منطقية كان الكذب مستملحا. ويعتبر الكذب عندها من الزينة والظرف ولا يؤخذ على أنه مخادعة. و ذلك نقيض الكذب المتخفي الذي لا تستبان خيوط الأحبولة فيه إلا بصعوبة. فحسن الكذب إذا في سناجته وصراحته لأن خيوط اللعبة منكشفة، في حين أن فساد الكذب في مكرة ومحاولة إخفائه. وبذلك يكون وصف الكذب بالصريح أو الخالص متعلقاً بمدى ظهور إشارات الكذب والدراج الكتاب فيها واعترافه بها حتى لو أنكرها ظاهريا. أما البنية الذهنية التي تتقاسمها العربية مع لغات أخرى وتطرح تساؤلاً جدياً حول مدى كوبيتها، فهي صفة الاختلاق التي تجعل من الافتراء مرادفا للكذب وتعطى لصفة الصراح والخالص والحبريت التي تطلق على بعض الأكاذيب تبريرا آخر. تعني مادة «فري» شق واستنبط ومنه قرى الكذب: اختلقه. كافتراه ..... ونجد التمشي نفسه في خرق»: «التخريق: التمزيق. وكثرة الكذب والتخرق خلق الكتب .... واخترق الكذب: اختلقه». وكذلك «عبط»: «عبط الكذب علي : افتعله»، ومما يدعم انتظام هذا المعنى وشيوعه أن صيغة «افترى»، أي افتعل عممت حتى أضحت تكفي وحدها للإشارة إلى اختلاق الكذب . كما يظهر في عبارة «افتعل عليه كلبا اختلقه» أو تقول قولا: ابتدعه كذباً».
وبهذا يكون الكذب البحث والخالص والحبريت الخ كذبا مبتدعاً مختلفاً برمته خلافاً للكنب المختلط (المغالط) الذي يحوي جزءاً حقيقياً منحرفا بالقلب أو بالزيادة أو بالنقصان. الكذب البحث هو إذا الكذب الذي لا علاقة له بالواقع أو بحكايته ، بل يخرج مكتملا من نهر المتكلم. ومن اللافت في هذا المقام أن البنية التحتية
التي يقوم عليها هذا الاستعمال توافق تأصيل الكذب في اللغة اللاتينية (mendacium) واللغات التي تطورت عنها ، أي الإسبانية (mentira) )menzogna( والإيطالية )mentira( والبرتغالية )minciuna( والرومانية )mensonge( والفرنسية والبروفنصالية (messongeo). فكل هذه الأشكال قائمة على جذع (mens-» الذي يشير إلى الذهن وملكة الذكاء ، فيكون الكذب عندهم اختلاق القول من الذهن.
وبهذا نجمل البني الذهنية التي يتأسس عليها الكذب في أربعة إجراءات الزيادة والاختلاق والتخليط والإخفاء ، يمكن اختزالها في ازدواجية أصيلة الإصلاح بالزيادة والابتداع من جهة والإفساد بالتخليط والإخفاء من جهة ثانية. وتلك الازدواجية هي التي تحكم سبل الترادف وتوجه تقييم الكتب ووصفه.
📍 ببليوغرافيا
بالعربية:
فاينريش (هارالد) اللغة والكتب تعريب وتقديم وتعليق عبد الرزاق بنور نشر دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن 2015 الفيروز أبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة بيروت 1008
باللغات الأجنبية:
. Ein Gespräch zur Person und über die Zeit mit Friedensreich Hundertwasser. 1998.
هامش:
1 - وقد عربناه مع مقدمة وتعاليق ونشر بعنوان: اللغة والكذب، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن 2015
2 - إلا في حالات استثنائية - مثل الكذب في الصلاح ، وهي حالات تبرز ازدواجية في مقاييس تقييم الكذب أو سلمية تعتبر البعض منه أقل سلبية من غيره أو تغيره بحسب استعمالاته ومقاصده. وسنرى لاحقا كيف أن الاستعمال اللغوي للألفاظ التي تقترن بالكتب يتجه في اتجاهين ويعتمد قطبين أحدهما يدفع نحو الأعلى في اتجاه التفاخر بالزيادة والتلميع والتزويق والثاني نحو الأسفل في اتجاه التواضع، بالحنف والتقليل والإخفاء)، لذلك كانت نظرة العرب إلى الكتب مصبوغة بهذه الازدواجية.
3 - يذكرنا هذا السؤال الأخير بعنوان كتاب (مارتنس) الز نستطيع العيش دون كتب ....!
مايكل مارتنز. لا يمكن أن تكون هناك عوائق
4 - لذلك اعتبر فاينريش) أن قطاعات حرفية تدفع أكثر من غيرها نحو الكتب والخداع. ومن اللافت أن المهن التي جعلها في المقدمة في الحضارة الغربية هي نفسها تقريبا المهن التي يحترف أصحابها الكتب في الحضارة العربية الإسلامية.
5 - كل الأمثلة مأخوذة من القاموس المحيط للفيروز أبادي.
6 - للتذكير، فقد رأينا أن السراب هو أيضاً أحد معاني العبقرة».
7 - للتذكير كذلك ننبه إلى أن الخلابس، تشير إلى السراب وإلى الكلام الذي لا نظام له ولا يجري على استواء».
8 - نجد هذه المعاني في التفسير العامي لمادة دجل مرادقة للكتب: دخل تدجيلا: غطى وطلي بالذهب لتمويهة بالباطل ...
9 - نراه في «زند» كتب و أزنده زاد، كما يبدو في التزيده الغلاء، والكتب، وفي الزغف»: الزيادة في الحديث بالكتب .. وكذلك في زهف»: أزهف الخبر زاد فيه، وكذب.
10 - تذكر بأنه أحد المعاني الأساسية في كل من مزورة و زيف» وكذلك أفك.....
تعليق