نجاة الغوز
الإنسان كائن قاص وسارد، وقد لزمه منذ القدم،
ولا نغالي القول إذا ما اعتبرنا السرد أول ما أنشأته الإنسانية بتعبير "بيير
جانيه" ذلك أن تواتر الأخبار والأحداث والمواقف كانت وجها من أوجه السرد،
ويعتبر رولان بارت أن السرد موجود في كل الأزمنة والأمكنة بل في كل المجتمعات، حيث
أنه يبدأ مع التاريخ أو مع الإنسانية، ولا وجود لشعب دونما سرد، وأن الطبقات الاجتماعية
تبني مستويات مختلفة من السرد لذلك حسب بارت فالناس من مختلف الثقافات يسعون لتذوق
هذه السرديات، ولفهم السرد لابد من تفكيك نسقه وبنائه بغية بناء تصور منهجي حوله
خاصة إذا ما تعلق الأمر بالسرد القديم والمكان السردي أو بحثا عن الأبعاد الجمالية
للمكان ضمن السياق الثقافي والوجداني الذي أسست على إثره تصورات ورؤى في إطار
فضاءات مكانية متداخلة ناسجة فيما بينها خيطا رفيعا للرؤية والفكر الجمالي في جانب
من جوانب النص وهو المكان.
إن
حضور المكان في الأدب الشعبي له خصوصياته الجمالية والفنية، خاصة إذا كان هذا
المكان في السرد العربي القديم وعلى وجه الخصوص في حكايات" ألف ليلة و
ليلة" ذلك أنها خلاصة ثقافات أدبية مختلفة المشارب ومبنية على حياكة سردية أساسها
أسلوب سردي محكم البناء ودلالات متنوعة السياق ، ثرية خياليا وإبداعيا.
حكايات
"ألف ليلة وليلة" إلى جانب دقتها السردية وبراعتها الأسلوبية يمكن أن
تندرج كذلك ضمن ما يسمى بالأدب الشعبي ، فهي تمتح من الإقبال الشعبي والجماهيري
المختلف عليها هذه السمة، الناقد عبد المالك مرتاض مثلا يرى أن شعبية حكايات
"ألف ليلة وليلة" ليست مغمزه فيها بقدر ماهي كمال لها، فلا يشتهر أدب من
الآداب ولا يذيع شأن عمل من الأعمال إلا
إذا أقبل الناس عليه يقرؤونه وينقدونه ويروجون لخلوده، ويمدون في أسباب حياته. بهذا
التوجه الواضح معالمه، تكمن شعبية حكايات " ألف ليلة وليلة" أي في
الإقبال الكبير على مدارستها ونقدها، وكل هذا يصب في قالب استمرار الحياة الإبداعية
لهذه الحكايات السردية، و المكان أيضا كان له دور في تأثيث جماليات السرد المحكي
لهذه الحكايات. وبناء عليه يحضر المكان في هذه الحكايات ببعده الجمالي والتخيلي
والصوفي والأسطوري...
إن
الشخصيات والقوى الفاعلة في حكايات "ألف ليلة وليلة" تساهم بشكل أو بآخر
في إضفاء أبعاد جمالية خاصة بل إنها تتأثر بالمكان والزمان السردي
معا ليشكلا معا بعدا ثقافيا وسرديا مميزا في بوثقة جمالية محكمة النسج والبناء،
ذلك أن المكان في حكايات" ألف ليلة وليلة" ليس مكانا فارغا أو سلبيا بل
يساهم في تأثيث المشاهد الجمالية والرؤى الإنسانية التي حبكت على إثرها هذه
الحكايات، فالعنوان يشير بشكل ضمني للمكان، حيث ارتبطت الحكايات بمكان الرواية والسرد،
وهو القصر الخاص بشهريار، المكان الذي يدور في بوثقة الخرافي العجائبي الأسطوري،
إنه فضاء يؤثث للغرائبية والخيال،ذلك أنه يأخذ مادته السردية من غاوية الخيال والغرائبية
وهو ما نلمسه بقوة كبيرة في نموذج حكاية السندباد البحري تلك الحكاية التي بنيت
على ثنائية مكانية هي: الظاهر والباطن ذلك أن المكان الظاهر هو المكان الملموس
المحسوس المعروف والباطني هو المكان الذي يلامس في ثناياه تلك الميزة الغرائبية
المجهولة الباعثة على الاستغراب وفوق المألوف والعادة.
ويحضر
الجمال في البعدين المكانين معا: الظاهر والباطن، فنلاحظ مثلا البحر ببعده الجمالي
والإيحائي وما تحمله الكلمة من رموز جمالية حاضرة" ومما يلي البحر قبة من
النحاس الأصفر معقود على عشرة أعمدة، وفوق القبة فارس"( ألف ليلة وليلة ج3 ص
72-73) فيتداخل هذا الجمال بعبق الغرابة ويفارق ألفة المتفق عليه، وفي نفس المنحى
نرى الوصف الخاص بالوادي باعتباره مكانا عاديا يحمل خصائص جمالية لكنه يخرج عن
إطاره الطبيعي، فيصبح مكان عيش كائنات غريبة " فوجدت نفسي في مكان عال يشرف
على واد كبير واسع عميق، وبجانبه جبل عظيم
شاهق في العلو ... وكل ذلك الوادي حيات تسعى وأفاع كل واحدة مثل النخلة من عظم
خلقتها لو جاءها فيل لابتلعته"( ألف ليلة و ليلة ج3 ص 73 ) فيتصل المكان
بأسطورة الأفعى العظيمة المهلكة، وفي ذلك تناغم كبير بين مكان له أبعاده الجمالية
والنفسية وأسطورة خيالية لأفعى تعيش فيه. فرغم الآثار السلبية لهذا المكان على
نفسية المتلقي وما يخلفه من آثار خوف وفزع
ونفور إلا أنه يرسم بذلك لوحة سردية وتشكيلا عجائبيا جماليا للمكان السردي في هذه
الحكاية.
في
مقابل هذا توجد أمكنة سردية مريحة تعكس الجمال بصورته الإيجابية خاصة عندما يصف
السارد على لسان السندباد عينا جارية " وفي تلك الجزيرة عين جارية نابعة من
صنف العنبر الخام، وهو يسيل مثل الشمع على جانب تلك العين" فالعبارة كفيلة كي
تقذف في قلب المتلقي راحة نفسية وانشراحا ذاتيا ، لأن المكان على جمالية الوصف
ينشر في ذات المتلقي الطمأنينة السردية إن صح القول ويخلق المتعة القرائية.
إن
فكرة صياغة الأمكنة في حكايات "ألف ليلة وليلة" بأبعادها التخيلية والأسطورية
في زوايا كثيرة منها تؤثث لجمالية المكان في تبلور رؤية العجائبي وضمن خيال متنوع
يتأسس على الإدراك الجميل والقبيح ، المريح والمخيف في بناء ونسج عالمين مختلفين (
ظاهر/باطن) وتثير في ذات الآن تساؤلات تثير الدافعية القرائية والـتأويلية في
اندثار واضح للزمن والمكان بل ذوبان بعضهما في بعض وفي خليط من الغرائبية والعجائبية.
تعليق