مستقبل العربية محكوم بصراع المتوازنات
د. محمد عبدو فلفل
جامعة حماة سوريا
drmohmedflfl1960@gmail.com
لا نزال نعالج الكثير من قضايانا الأساسية معالجة تفتقر إلى ما يكفي من المكاشفة والتشخيص الواقعي القائم على التفكير العلمي والموضوعية، وربط الأشياء بمسبِّباتها الحقيقية. ولعل خير مثال على ذلك معالجتنا للمسألة اللغوية، وتلمسُ وضع لغتنا المزري، واستشرافُ آفاق مستقبلها القاتم، والقلقُ من اندثارها، إلى غير ذلك من المقولات التي قد يوضِّح ما فيها من مغالاة ضرورة النظر إلى ما نحن فيه نظرة علمية ، قوامها الواقعية والموضوعية، وربط ممارسة الإنسان للغة بوظيفتها، وجدواها في مختلف شؤون حياته،فتعلم اللغة والعناية بها محكومان بالحاجة إليها، فمن طبيعة الإنسان ألَّا يبذل في الأمر من الجهد أكثر من الجدوى التي ينتظرها منه.
ولو نظرنا إلى واقع
عربيتنا، ومستقبلها في ضوء هذه المعطيات لتراءى لنا أن حالتها طبيعية ومستقرة، وذلك
خلافًا لما يُحْـلَـمُ لها به من العالمية المبالَغ فيها،و لما يراه بعضهم من أنها في حالة من حالات احتشاء العضلة
القلبية المنذرة بالاندثار الأبدي، فمما يلفت انتباه المعنيِّ بالعربية الفصحى
أنها في عمرها المديد مخالفة لقانون تغيُّر اللغات البشرية القاضي بانقراض اللغة
أو انحلالها في لغات جديدة، ولعل ما يفسر هذه الحالة الشاذة هو تصارع عوامل متوازنة، يبدو أنها تضمن
للعربية بتوازنها حالة من الثبات الذي يُـمِكِّـن المتحدثَ بها من التواصل مع
مخزونها المعرفي، كما يضمن لها تجددا يمكنها
إلى حد ما من التعبير عما يستجد في حياة الناطقين بها،أما العوامل
التي تضمن بقاء العربية فهي:
1-العربية لغة القرآن الكريم، كتاب المسلمين الذي لا يجوز تعبدهم به إلا بها، وهذا هو السبب الرئيس الذي يُفَسَّـرُ
به استمرارها على هذا النحو من الثبات،
فـلولا القرآن لاندثرت العربية، أوأصبحت لغة أثرية، تشبه اللاتينية أو السنسكريتية.
2-مخزون العربية المعرفي. العربية خزان معرفي لما تحمله لما كتب بها منذ ما يقارب سبعة عشر قرنا ، لذلك
عُـدت من اللغات الثقافية العالمية المعروفة
بأنها خزانات معرفية وثقافية، كالسنسكريتية واللاتينية والصينية، بل يرى بعضهم
أن العربية إحدى اللغات الأكثر أهمية بين اللغات الثقافية في العالم. ومعلوم أن مكانة
اللغة إنما تتحدد بما تحمله من تراث، وما تقدمه من نتاج حضاري حديث.
3-الرصيد البشري. إن عدد
المتحدثين باللغة من العوامل المؤثرة في حياتها، والعربية من اللغات العالمية
الأكثر انتشارا،فهي كما تفيد بعض الدراسات خامسة اللغات العشر الأكثر انتشارا في
العالم
4- العربية لغة متجددة،فهي من اللغات الممتلكة لعناصر التجدد الذاتي التي تمكنها من
الاستجابة وفق رؤية محددة لمستجدات الحياة بمختلف أطيافها، وهو ما أقره الكثير من
المعنيين بها عربا وأجانب، وهو ما فسَّر به فندريس سعة انتشار بعض اللغات في العالم ومنها العربية.
5-المرجعية المعيارية. العربية لغة مقعَّــدة، وتقعيد اللغة من عوامل ثباتها،لاحتكام ممارسيها
إلى قواعدها الضابطة لها.
هذه هي أهم العوامل التي
ضمنت للعربية ما نراها عليه من الثبات، أما العوامل الفاعلة في تغييرها فيمكن أن
نوجزها فيما يلي:
1-الإشكالية الحضارية.العامل الحضاري
عامل أساسي في قوة انتشار اللغة داخليا وخارجيا، فالإنتاج الحضاري من العوامل
المؤثرة في مكانة اللغات العالمية،و ظاهر أن العرب كفَّوا منذ زمن عن المشاركة
الفعالة في إنتاج المكونات الحضارية الكونية، لذا من الطبيعي والحالة هذه أن تكون
العربية في الموقع الذي هي فيه،أو في الحالة التي هي عليها.
2- قصور في الوعي اللغوي.المراد بذلك أنه ليس في الوجدان العربي الجمعي ما يشي بوعي سليم
لأهمية العربية في حياتنا أفرادا ومجتمعات، ومؤسسات، يرى عبد السلام المسدي أن
الأمر انتهى بلغة الضاد إلى تدنى وضعها الاعتباري في نفوس أبنائها في دولة الاستقلال
عمَّا كان عليه أيام دولة الاحتلال والكفاح الوطني ضد المستعمر، مما يشي بغياب ما
يكفي من الوعي الخاص بالمسألة اللغوية العربية في الراهن العربي.وأهمية هذا الملحظ
تتجلى في أن من يع أهمية الشيء في حياته وعيا سليما يع أيضا ما يترتب على هذا الوعي
من واجبات للنهوض به ورعايته، ويبدو أن قصور وعينا بأهمية اللغة الأم في حياتنا
ترتَّبَ عليه المعوق الثالث من معوقات العربية،
وهو التقصير في الإعداد اللغوي.
3-قصور في الإعداد اللغوي.المراد بذلك أن أبناء العربية نادرا ما يحرصون على إعداد أنفسهم
إعدادا لغويا ما لم يكونوا متخصصين بهذه اللغة، وكأن المسألة مسألة اختصاص علمي،
لا مهارةٌ، يجب امتلاكُها والعملُ على رعايتها، فالتقصير في الإعداد اللغوي له
أثره الفاعل في حياة لغتنا، وقد يبدو ذلك أكثر وضوحا إذا ما علمنا أن امتلاك
المهارة في أية لغة، من الناطقين بها أو بغيرها يتطلب الكثير من الجهد والوقت.
4-الزحام اللغوي. العربية
مزاحَـمَـة في عقر دارها بممارسات لغوية، تحدّ من انتشارها، ويتجلى ذلك على
المستويين الحياتي اليومي والرسمي، أما في الحياة اليومية فحضور العربية معدوم
لسيطرة عامياتها على هذا المستوى من الممارسة اللغوية، والخطير في الأمر أن ما بين
العربية الفصحى ولهجاتها اختلافات حادة وعميقة، مما يحمل على القول بأن هذه
العاميات باتت هي اللغة الأم بالنسبة إلى الإنسان العربي، وأما الفصيحة فهي بمنزلة
اللغة الثانية بالنسبة إليه.علما أن تصور القضاء على اللهجات لتسودَ الفصحية كلَّ
مظاهر حياة أبنائها وَهْــمٌ خالص، فلكل من هذين المستويين مجالات خاصة به،
والمأمول هو تضييق الهوة ما أمكن بين الفصيحة و عامياتها . أما على المستوى الرسمي
المهني،أو العلمي والتعليمي فالعربية منافسة باللغتين الإنكليزية والفرنسية اللتين
تتصارعان على مناطق النفوذ في الوطن العربي.على أن ما تعانيه المجتمعات العربية من
التعدد أو التداخل اللغوي ليس هو المسؤول الأهم والوحيد عما تعانيه من
إشكالية حضارية علمية أو لغوية، والراجح
أن العامل الأهم فيما نحن فيه عدم الاتفاق على الأولويات الكفيلة بالنهضة التنموية
الشاملة، فالاتفاق على الأولويات مقدمة لوضع كل شيء في مكانه.
5-قصور في الإملاء العربي .من معوقات العربية صعوبة إملائها التي لم تُجْـدِ معها محاولات
الإصلاح، فعلى إيماننا بأنه لا وجود لإملاء مثالي في لغات البشر عامة نؤمن أيضا
بما يراه البعض من أن صعوبة الخط معوق من معوقات انتشار اللغة ، و أن الإملاء
العربي على ما هو عليه معوِّق من معوقات تعلم العربية وتعليمها.
تعليق