بيت اللسانيات بيت اللسانيات

آخر الأخبار[vcover]

جاري التحميل ...

تعليق

قراءة سوسيولوجية نقدية لكتاب أنور عبد الملك "تغير العالم والجدلية الاجتماعية"

 قراءة سوسيولوجية نقدية لكتاب أنور عبد الملك تغيير العالم والجدلية الاجتماعية

أكارم عقل أبو ليلا - الجامعة اللبنانية

akaremaboulayla@hotmail.com

(سيرة ذاتية)

 مقدمة عامة:

إن التحرر من الاغتراب الاستعماري كان الهاجس الذي يسكن في قلب العمل الفكري لدى أنور عبد الملك، فمن أجل مقاومة أكثر جذرية للاحتلال البريطاني في مصر انخرط مع الكثير من رفاقه الشباب في حركة شيوعية كان إنجازها الأساسي من وجهة نظر عبد الملك هو تحويل الماركسية من نظرية لتحرير الطبقة العاملة من الاستغلال الى أيديولوجيا للتحرر الوطني من الاستعمار.

ولهذا كان دائما ما يميزه عند رصده لتاريخ هذه الحركة بين الخط الوطني الذي يهدف الى بناء الدولة القومية والخط الاممي الذي يلتقي موضوعيا مع مصالح الاستعمار.

ويرى أن المجتمع المصري لا تنطبق عليه الاطروحة الماركسية التقليدية التي تعد الجيش دائما آداه في يد البرجوازية لفرض سيطرتها على باقي طبقات المجتمع. وقد بيّن عبد الملك كيف أن الجيش في البلاد الناهضة والمتحررة من الاستعمار آداه في يد المجتمع لتحقيق الدولة الوطنية المستقلة. فالبورجوازية في المجتمعات المستعمرة تميل عادة الى الحلول الوسطى مع الاستعمار إن لم يكن الى التبعية. فالجيش المصري بالنسبة له هو طليعة القوى الوطنية. 

لم يكن هذا الطرح هو الجديد فحسب وإنما كانت منهجية الدراسة التي تناول بها عبد الملك موضوعه. فنحن أمام منهج يجمع بين الفلسفة والتاريخ والعلوم السياسية والسوسيولوجيا، كما إننا أيضاً أمام أسلوب فريد يجمع بين موضوعية الرصد وتدفق العاطفة.

من هذا كله جعل أنور عبد الملك يعيد قراءة فكر النهضة العربي ليخرج به من التوصيف التقليدي الذي يحوله الى مجرد إعادة انتاج لتيارات غربية في البيئة العربية: اصلاح ديني، ليبرالي، قومي، اشتراكي. ليقدمه لنا بوصف تجسيداً للوعي بالنهضة القومية والتي تفترض الوعي بمشكلات المجتمع وبظروف العصر. لا أن التباينات بين تيارات الفكر المختلفة ليس الا لحظات جدلية في عملية تحويل حلم النهضة الى واقع اجتماعي متجسد في الدولة القومية. وهذه الدولة ليس لها أي طابع قمعي، بل هي الوسيلة الحقيقية للتحرر من الاغتراب الاستعماري. ولهذا يبرز عبد الملك البعد الإنساني والنضالي في هذا الفكر ويؤكد على تأثره الإيجابي والنافع بالفكر الثوري والإنساني الغربي.

   ... لقد جاء اسهامه الفكري الكبير" الجدلية الاجتماعية" (1972) و "تغيير العالم" ليضع كل هذا الإنتاج الفكري في عمل لا يقدم رؤية جديدة للحراك الاجتماعي على مستوى العالم فحسب، وإنما أيضاً أدوات منهجية تزيد من القدرة التفسيرية للنظريات التي ترصد تفاعل المجتمعات الإنسانية مع بعضها البعض. فهو يتمسك بالمنهج الجدلي في مواجهة الفكر الوصفي وكذلك في مواجهة البنيوية وهي كلها مناهج معروفة في علم الاجتماع.

ورغم ما في المنهج الجدلي من خلفية ماركسية الا أن التنمية التي اقترحها لمنهجية تجعله يرفض المادية الجدلية التي تفرضُ في نهاية المطاف سيطرة قوانين على الظاهرة الإنسانية. كما يرفض الجدل التاريخي الذي يجعل التاريخ يحكم المستقبل.

إن الجدل الاجتماعي عند أنور عبد الملك هو منهج لدراسات الإنسانية التي تتيح دراسة التفاعل بين العام والخاص.

ويرى عبد الملك أن الجدلية الاجتماعية تولد من رحم الامة ويقسمها الى نوعين:

  1. الجدلية الاجتماعية الباطنة: وهي تحدد الصراع الطبقي من أجل السلطة.

  2. الجدلية الاجتماعية الطائرة: وهي تدرس تفاعل الأمم والمحطات الثقافية في مسيرة الحضارات.

وهذا الكتاب يحمل الكثير من الدلالات التي تبين طبيعة الاسهام الفكري "لأنور عبد الملك" فهو يحمل في قلبه جذوة مقاومة الاغتراب الاستعماري. كما أنه يتخذ موقفا نقديا حراً من الماركسية ويعمل على تطويرها من خلال جهده في تفسير ما لا تستطيع الماركسية أن تفسره وهو العالم غير الأوروبي.

وقفة تاريخية لمعرفة الحاضر:

إن المفاهيم والنظريات القائمة ابانة الحرب العالمية الثانية كانت تعبر عن ثمار تاريخ المجتمعات المتحضرة (الغرب في أوروبا وامريكا الشمالية) أي في دائرة النظام العالمي المتمركز حول الغرب 

ان الترسانة الفكرية: أي النظرية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كانت تندرج في مجموعتين: الفكر الليبرالي والفكر الاشتراكي

فالفكر رأسمالي الذي يعبر عن الديمقراطية الأقلية المالكة الحاكمة ويبرر هيمنة الغرب على العالم المحيط باسم الحضارة والحداثة والتقدم. وفي المقابل ذلك تبددت منظومة الفكر الاشتراكي حول نواتها الماركسية القادمة من الغرب 

وسعت الرأسمالية المحلية التي أطلقوا عليها البرجوازية الوطنية الى تقليد ليبرالية الديمقراطيات الرأسمالية الغربية، لذلك اتجهت الحركات التحررية الشعبية الثورية الى استيعاب مفاهيم الماركسية للإفادة من تجارب المجموعة الاشتراكية في الغرب.

الطلائع التي تولت الربط بين الفكر والعمل، بين النظرية والتحرك في الأمم الرئيسة لعالم الجنوب، وخاصة دائرة الشرق الحضاري- في مصر الصين، في الهند العراق والجزائر... كانت تتبع في الأساس من الطبقات الوسطى المتمكنة من ثقافة عالمية ووطنية ذات مستوى رفيع بفضل مكانة أنظمة التعليم العالي والتفاعل المتصل الحاد والمثمر مع الحركات الفكرية في الدول الامبريالية على الضفة الأخرى من النهر.

على الضفة الأخرى من النهر.

وإذا بهذه الطلائع تستشعر قدرا غير قليل من الغرابة بل الغيرية، وكأنها تتحدث عن مظاهر أو تحركات أو مؤسسات أو تيارات لا يجمع بينها وبين مثيلاتها في الغرب المتقدم المهيمن الا مفاهيم وعبارات، بل وحروف مشتركة.

فمثلا الغرب يقول أن المجتمع القومي أي الامة بدأ في قلبه منذ القرن 11م . لكن مفهوم الامة هو المفهوم المشترك على ساحة الفكر الغربي كله من فلاسفة التنوير (في إنجلترا، وفرنسا، وخاصة ألمانيا) هذا المفهوم لا يختلف في الجوهر عما تبدى في عدد غير قليل من المجتمعات في عالم الجنوب، وخاصة في دائرة الشرق الحضاري.

مما يطرح الإشكالية: إذا كانت الامة لم تبدأ الا في القرن 11م. في أوروبا فماذا مثلا عن مصر والصين وإيران الفارسية واليمن ثم اليابان والمغرب؟ مجرد مجتمعات سكانية مرحلية فاقدة الاستمرارية والخصوصية؟ 

على هذه الإشكالية: أجاب منظرو الغرب بأن هذه الإشكال المماثلة في العالم اللاغربي إنما هي أشكال من الاستثنائية لا تمت الى مفهوم الامة بحال من الأحوال. 

ومما يطرح هنا وإن كانت استثنائية فما هي؟ وما علاقة هذه الاشكال الاستثنائية بالمفهوم العالمي الذي لا يمكن أن تتم صياغته الا بدءا من أرضية مجموع التكوينات المجتمعية على ساحة العالم أجمع؟ ثم اتسع الامر واستمر يتسع حتى شمل ساحة المفاهيم المعمول بها في ساحة دراسة المجتمعات، مع التركيز على مفاهيم التي تبدت بشكل ساطع في المجتمعات اللاغربية ومن بينها: الحكم الديمقراطي، دور الجيش في الامة، الثقافة الوطنية، الصراع الطبقي، الدين، الفكر الحضاري.....

وترتفع تسمية ما تتصف به حياة المجتمعات في الشرق الحضاري بالمغايرة والاستثنائية بل والشذوذ -  وكان الشرق على موعد مع التغييب لا مكان له في عالم الفكر المتحضر (الغربي) اللهم الا إذا قبل مفكرو الشرق أن يتنكروا لخصوصيات مجتمعاتهم وانجازاتها وعقدوا العزم على العدول عن هذه المظاهر الشاذة إن جاء التعبير الخارجة عن أصول النظرية العامة، وكذا فرض نتائج وأنماط التجارب وأفكار الغرب على مجتمعات الشرق الحضاري باسم الحداثة والتنمية والحضارة.

كانت هذه هي اللحظة التاريخية التي حددت واجب إعادة صياغة الفكر الاجتماعي: المفاهيم الرئيسية أولا، ثم منظومات المفاهيم والتصورات القطاعية، حتى الوصول الى منظومات النظرية الاجتماعية في مختلف المجالات. ساحة واسعة انفتحت بعد الحرب العالمية الثانية أمام المشتغلين في مجالات البحث العلمي والفكر الاجتماعي- ومن هنا جاء مشروع الفكر الذي يمثل كتاب الجدلية الاجتماعية أول ثماره. إذ يقدم محاولات البحث والتنقيب والتجديد التي تم إنجازها بين 1962و1972 وهي المرحلة التي امتدت بين حرب السويس وعبور أكتوبر وقد أرادت الجدلية الاجتماعية أن تواكبهما.

لماذا اتجه مشروعنا الفكري الى منهج الجدلية؟

بداية كان الفكر الاشتراكي على تنوع فصائله، وفي قلبه الفكر الماركسي، يصبو الى التغيير، الى الحركة في مواجهة الجمود – وهو التوجه الذي نمى به الى المنهج الجدلي، خاصة بعد أن ارتفع هذا المنهج الى قمة مدوية على يدي هيجل الوريث التاريخي للفلسفة الجدلية المثالية في تراث الغرب التي أسسها افلاطون.

مقدمة عن كتاب تغيير العالم:

إن عملية تغير العالم منذ نهاية الحرب العالمية وخاصة منذ مرحلة ما بين عامي 1949و 1973 أي انتصار ثورة التحرر الوطني وإقامة ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ من الصين 

 الشعبية في أول أكتوبر1949 من ناحية وحرب أكتوبر ﻓـﻲ1973وتحرير فيتنام في نفس المرحلة من ناحية أخرى أمر مركزي في تطور المجتمعات البشرية الحديثة، كما أنه يمثل نقطة التحول في تاريخ العالم.

ومن ثم فان هذه العملية، عملية " تغير" العالم لا تحدث بشكل موضوعي آلي بحت، من جراء تطور القوى الإنتاجية أو مقتضيات المرحلة الثانية للثورة الصناعية، وغير ذلك من الأسباب التي يسهل وصفها كمياً. إنها عملية تلعب فيها الإرادة السياسية دوراً رئيسا، يمتد مجاله من الجيو – سياسة العالمية والإقليمية الى الدين وصراع الحضارات. أي أن عملية "تغير" العالم تقتضي بالضرورة، دراسة القوى العاملة على تغير العالم. بعضها يعمل من أجل توسيع رقعة التحرر والحرية والتقدم والبعض الآخر يعمل من أجل اخضاع عملية التغير الى هيمنة المركز الواحد.

وأن تشابك هذه الاتجاهات وتعدد مسالكها ومناهجها، وتباين معدلات سرعة تحركها الذاتي أثارت، وتثير بشكل متزايد، مستوى جديدا من الاشكال يقتضي نوعا جديدا من التحليل...

ومن هنا، فإن هذه الدراسة المقتضبة سوف تتجه أولا وقبل كل شيء الى دراسة المحاور العامة لعملية تغيير العالم. دون أن تهتم بالسرد التفصيلي. وهو من شأن الدراسات التفصيلية الميدانية، والمتابعة الصحفية الدقيقة- وذلك بغية تقديم صورة شاملة لعملية تغيير العالم من خلال التغيرات الحادثة فعلا، وبشك أوضح إبتداء من الطاقات الحركية الكامنة.

ومن هنا، سيكون التركيز على ذلك " الجزء المغمور من تحت الثلج" بغية النفاذ الى أعماق التيارات التي تعمل في قلب المحيط العميق لتاريخنا المعاصر، آنيا ومستقبلنا. 

وخلاصة القول: فان هذه الدراسة تستهدف أن تضع بين يدي القارئ الملتزم، والمواطن الواعي وبين طلائع مختلف المدارس التكونية الاصلية للفكر والعمل في أمتنا العربية- مجموعة التحاليل والرؤى التي قد تعين على تحديد التحرك العربي في المرحلة القادمة، صوب نظام عالمي جديد.

فهذه دراسة لا تقدم "حلولاً" ولا صفات وإنما تكتفي بوضع ملف هذه القضية الكبرى بين أيدي الطلائع العربية، التي تستطيع وحدها وانطلاقاً من أرضنا، أن تشكل مشروعنا الحضاري العربي، وكذا استراتيجيتنا الحضارية العربية، في قلب نهضة شعوب الشرق، في عصر اندلاع "ريح الشرق " الذي يجمع بين صحوة حضارات شعوبنا الشرقية وعزمها الأكيد على تأكيد مكانتها، واستقلال قرارها، وتأمين مسارها في اتجاه المواكبة مع القوى التقدمية على أوسع نطاق في عالمنا المعاصر.

وقد أفادت هذه الدراسة من المعطيات المتراكمة بي عامي 1978و 1982 في نطاق المشروع الذي حظينا بشرف تنسيقه في إطار جامعة الأمم المتحدة حول" البدائل الاجتماعية – الثقافية للتنمية في عالم متغير" وخاصة المشروع الفرعي حول " تغيير العالم".

الباب الأول: عالمية العالم

الفصل الأول: في أصول النظام العالمي

الفصل الثاني: من عالمية العالم الى حتمية التغيير

الفصل الثالث: ثلاث رؤى لتغيير العالم

الفصل الرابع: منطقتا الصراع الرئيستان

الفصل الأول: في أصول النظام العالمي:

في عام 1945برزت قوتان عظيمتين كانت الولايات المتحدة الامريكية عالم هامشي يدور في مسار فلكي مستقل، بينما كانت القوى الكبرى او المؤثرة منحصرة في الربع الأول من القرن 20 في أوروبا وكان غالبية العالم أي القارات الثلاث اسيا افريقيا أمريكا اللاتينية لا وجود لها الا بوصفها امتدادات تابعة للقارة الأوروبية.

لو عدنا الى الوراء الى القرن 19 مثلا لرأينا صورة غريبة: القارة الأوروبية في المركز ثم تحركات هائلة في قطاع الشرق الحضاري-أي اسيا والعالم الإسلامي- العربي بامتداداته الافريقية. خاصة حول تحرك الدولة المصرية بقيادة محمد علي بين 1805 و1840 والثورات الشعبية الفلاحية في الصين والهند.

كان مفهوم العالم منحصر فقط بمفهوم تاريخي فلسفي ديني يرمز الى إدراك شامل لمجموع ما تم اكتشافه وتدوينه في كتب الرحلات والجغرافيا (مثل حملة نابليون على مصر) فمثلاً ووفاة نابليون كذلك أخذ شهرين حتى انتشر في وسط فرنسا وذلك بسبب أن مفهوم العالم كان عبارة عن مفهوم استكشاف الجغرافيا...

فقد اقترنت عملية إدراك ما يمكن أن نسميه هنا" عالمية العالم " La     Mondialisation du monde بتكوين مجموعة المعارف التي يطلق عليها اليوم" العلوم الاجتماعية" ذلك أن جامعات مرحلة سنة 1800 لم تكن تعرف فكرة الأقسام المتخصصة باستثناء "مفهوم علم التاريخ" وبدأنا نشهد في هذه المرحلة ظهور مجالات متعددة اتخذت التسميات التقليدية للعلوم الاجتماعية المعاصرة كما نعرفها اليوم:" الاقتصاد، علم النفس، علم الانسان، علم السياسية....." وحيث أصبح كل علم يتناول زاوية متخصصة في واقع العالم. وقد بدأت المحاولات الأولى لجمع هذه الزوايا في تحليل من ناحية وبين التاريخ العام، وعلوم الأديان من ناحية أخرى.

بُغية تفسير " مفهوم العالم" وخاصة طرق تكون النظام العالمي الذي وجدفي بداية القرن 20.

كان "النظام العالمي" القائم آنذاك هو نظام الهيمنة الأوروبية على سائر القارات   (آسيا، إفريقيا، أمريكا اللاتينية) باستثناء الولايات المتحدة الامريكية لان القرن 15 كان عصر الاستكشافات البحرية الكبرى. وما ترتب عليه من تراكم الثروات والمواد في ايدي القارة الأوروبية.

وشرعت العلوم الاجتماعية الأوروبية تتساءل حول أسباب تلك الهيمنة واستمرارها.

فانقسم الراي بين عدة اتجاهات رئيسية:

  • المفكرون التقليديون: قالوا إن هذا الواقع لا يمثل اشكالا خاصاً فمن كان أكثر تقدماً لا بد أن يكون أكثر قدرة وكفاءة أو أهلية أي إن الهيمنة الأوروبية ليست امراً جديداً. مبررين ذلك بعدة تساؤلات: أفلم تكن هذه النهضة أوروبية فحسب؟ الم تقم على مقدمات معروفة ومثبتة تؤكد تفوق أوروبا الازلي الابدي، ابتداء من حضارات اليونان وروما ومن بعدها الدعوة المسيحية وانتشار فلسفتها الأخلاقية وقيمتها الروحية عبر العصور الوسطى؟ (فمثلاً: سقراط وبركليس حتى الإمبراطورية البريطانية في العصر الفيكتوري ومن بعده ظهور أو إدراك ظاهرة عالمية العالم.) 

إذن: لم التساؤل؟

    خلاصة القول إن العالم كان ولا يزال وسيظل نظرة دائرية تمثل أيضا نظرة مراكز الهيمنة التقليدية التي عرفت كيف تحاصر نتائج الاكتشافات الحديثة الخاصة بالحضارات والثقافات الأخرى وتضعها في إطار منمق باسم الاستشراق فلا وجود للشرق الحضاري الشامخ وحضاراته العريقة واستمرار خصوصياته الثقافية والقومية في تشكيل النظام العالمي، ما دام خارج أرضية التحرك الفعال ابتداء من هذه النظرة الدائرية المغلقة، نظرة الهيمنة بل والوجود المتوحد لأوروبا والغرب على ساحة تاريخ العالم.

  • ثم جاء عدد من النقاد المجددين: وذهبوا الى أن التاريخ يمكن وصفه على النمط التالي بشكل مقتضب:

    إن دائرة الهيمنة الأوروبية تظل كما هي حسب ما وصفناه سابقا، غير أن هذا العالم اعتبر مكونا من وحدات (الدول الأوروبية) قيل إنها مصطنعة، ولم يكن لها واقع عميق الجذور، إذ أنها تكونت عبر مسيرة من التراكمات قيل إنها اقطاعية في البداية ثم أدت بعد مرحلة الى صراعات مع طبقات مجتمعات المدن أي البرجوازية الى تكوين الدول الأوروبية من الطراز الحديث وهي الدولة التي انقسمت بدورها الى قطاعين مجموعة مراكز القوى الرأسمالية من ناحية وفئات أو طبقة العاملين في المصانع التي وجدت في المدن وحولها من ناحية أخرى.

    ويقول هؤلاء النقاد أن هذا العالم الحديث- الأوروبي- سبقته مجموعة من غير متجانسة من الظواهر داخل وخارج القارة الأوروبية وفي هذا اعتراف حول بظواهر وحضارات خارج دائرة الهيمنة التقليدية (حضارة مصر الفرعونية وحضارة الصينية ورومانسية ألف ليلة وليلة) ومما يضحك هو المتفرج الشرقي وانكار تاريخية العالم في مجموعه، إذ أن الاعتراف بهذه التاريخية معناه الاعتراف بعراقة وأصالة حضارات الشرق. وقدرتها على الاستمرارية التاريخية عبر عشرات القرون. 



الفصل الثاني: من عالمية العالم الى حتمية التغيير 

اولاً: إن مسألة مرحلة الانتقال في تشكيل النظام العالمي- أي الانتقال من تكوين النظام العالمي الى نقد مشروعيته ثم تقديم البدائل – تكون مشكلة ثانية في حد ذاتها. فإن قلنا النظام العالمي، يصبح السؤال متى بالضبط تشكل ذلك النظام؟ وما هو جوهره وصوره؟

أول ما يتبادر الى الذهن أن النظام العالمي يرمز الى تقسيم مناطق النفوذ في العالم 1945. ففي المرحلة الختامية للحرب العالمية أصبح من المؤكد أن ألمانيا واليابان لن تستمر في القتال والحلفاء (الولايات المتحدة، إنجلترا، الاتحاد السوفيتي، الصين) على أبواب النصر.

فإذا اتفقنا على هذه المرحلة الزمنية هي رمز لميزان القوي العسكرية يصبح علينا أن نوقف النظر في مكونات ذلك التوازن الذي لا يزال يحدد الإطار الأعم للنظام العالمي الراهن.

أ) إن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية يمثل التقاء المصالح في: الدفاع عن الذات من ناحية، والسيطرة على القارة الأوروبية ومستعمراتها من ناحية، ومحاولة اليابان السيطرة على المحيط الهادئ وشرق وجنوب أسيا. لكن هذا الالتقاء كان شكلياً.

فالالتقاء الحقيقي كان بسبب أن معظم الدول الأوروبية كانت قد تحالفت لشن حروب التدخل ضد الدولة السوفيتية الفتية (1919-1923).

ب) لم تكن مجموعة الحلفاء المنتصرين متجانسة من حيث تاريخ تحركها السياسي، والاستراتيجي. 

نجد أن بريطانيا والاتحاد السوفيتي وريث روسيا القيصرية وتنتميان الى صلب القارة الأوروبية جغرافياً وتاريخياً أي من ورثة تاريخ الاستعمار.

أما الولايات المتحدة كان أمرها مغايراً تماما فقد تكّون اتحاد الولايات الأمريكية بعد نجاح حرب الاستقلال ضد إنجلترا، وانتصار ولايات الشمال الصناعية على   ولايات الجنوب الزراعية في الحرب الاهلية.

إن الولايات المتحدة هي أمة لم تعرف الحروب الا للتوسع والاكتشافات فجعلها ذلك أقوى ترسانة للمواصلات السلكية واللاسلكية بهدف التأثير على قارات أخرى.

ج) فأن تحول أمريكا الى قارة أوروبية والى "حلف الاطلنطي" كان بسبب عدة عوامل أبرزها:

  • امتلاكها سلاحا جديدا (القنبلة الذرية) مما دفع الاتحاد السوفيتي أن يعمل على إنتاج هذا السلاح بتكلفة وتضحيات باهظة مما خلق جو من التنافس أو تقابل بين حليفين.

  • تفوقها من حيث الامكانات الاقتصادية كان دافعاً لقارة الاوروبية لإفادة منه (مشروع مارشال 1947) لكن اتحاد السوفيتي رفض هذا المشروع تفادياً من التفتيش والمراقبة المواكب لإعادة تعمير الاقتصاد ومرافق العمران.

  • ترتب على هذا التفوق الحربي الميداني الضخم الذي أحرزه الجيش الأحمر السوفيتي في أوروبا الى تقسيم النفوذ على نسب محددة: 90% من النفوذ في رومانيا، 80% في بلغاريا وهنغاريا والمجر،50% في يوغوسلافيا، 10% في اليونان.

  • إن عدم وجود انسجام غربي، وتصعيد إرادة القوة الامريكية، دفع الاتحاد السوفيتي الى أن يحيط نفسه بمنطقة دفاعية من الدول الحليفة تمنع تكرار اختراق حدوده المأساوي (جحافل هتلر).

  • انشاء" حلف الاطلنطي" أكد دور أمريكا القيادي بالنسبة لجبهة حلفائها من دول غرب أوروبا الرأسمالية، تحت حماية المظلة النووية.

د) انشقاق جبهة الحلفاء الى طرفين نقيضين على أساس ميداني سياسي استراتيجي من ناحية، وأساس أيديولوجي يرتكز على تباين النظامين الاقتصاديين في العالم الغربي من ناحية أخرى وذلك كله بعد مرور سنتان على انتهاء الحرب العالمية.

ثانياً: لم يشعر العالم آنذاك أن الحرب في آسيا والمحيط الهادي يمكن أن تمثل عاملاً جديداً في ميزان القوى العالمي على الرغم من شراسة المعارك. فظهور وتحرك قوتين جبارتين في آسيا- الصين واليابان- بدوا وكأنهما أقل أهمية بكثير من تحرك الأساطيل الامريكية في المحيط الهادي ومعارك القوات البرية لإنجلترا وحلفائها.

أما عن الدائرة الحضارية الثانية في الشرق المعاصر أي الدائرة الآسيوية- الافريقية الإسلامية، في اتصال وثيق مع شبه القارة الهندية فقد ظلت أيضاً في مرتبة أدنى، وإن كانت أقل هامشية من منطقة آسيا والمحيط الهادي. هذا عدا عن اندلاع حركات وثورات التحرير في العالم العربي، وتحرك الهند الجبار بقيادة المهاتما غاندي...

كل هذه العوامل كان من شأنها أن تجعل هذا الميدان عنصراً مواكباً للميدان الأوروبي.

ثالثاً: وعندما أصبح التهديد النووي الأمريكي حافزاً لرد فعل الثانوي أي إقامة نظام تسلح نووي دفاعي، بدأ النظام العالمي يتسم بخاصتين تحددان نوعية كل تحليل ممكن للعمليات المتصلة بتغيير العالم:

أ) الخاصية الأولى: وجود مركزين للقوة والتأثير والفاعلية في العالم (الولايات المتحدة الامريكية، الاتحاد السوفيتي) فالولايات المتحدة كونها حداثة بالنسبة للقارة الأوروبية ومستعمراتها السابقة من ناحية، وحقيقة الاتحاد السوفيتي كونه جزء لا يتجزأ من تاريخ صعود الغرب الأوروبي الى عصر الهيمنة.

هكذا أصبح الاتحاد السوفيتي درع استراتيجي دفاعي ضد الترسانة الامريكية والأطلنطية النووية يقف في وجه الولايات المتحدة في بعض المجالات، وفي بعض الأحيان تتقدم عليها من الناحيتين الاستراتيجية (المرتكز على السلاح النووي) والعسكرية.

ب) الخاصية الثانية: إن مناطق النزاع والخلاف الرئيسة في العالم تظل تتفجر في حروب محلية فتبدو وكأن لا وجهة لها بشكل يثير الدهشة (الشرق الأوسط، جنوب أفريقيا، كوريا). فتستمر الحروب في حركة متصلة من التأجج ثم الخمود المرحلي دون حسم. إذ أن الحسم سوف يمس ميزان القوى المركزي في قلب النظام العالمي. ولا يمكن أن يتم التغيير في هذا النظام العالمي إلا من خلال هذه التناقضات الجذرية.

ج) انبثاق حركة عدم الانحياز أي الحيادية وتكوين مجموعة من الدول التي بقيت محايدة وذلك بسبب أن أصحاب المصلحة في تغيير النظام العالمي يتمثل في الصراع حول السباق على التسلح النووي في ذلك نبعت حملات ومشاريع للحد من هذا السباق وإقامة مناطق منزوعة من السلاح النووي وخفض مستوى التسلح، لا بل منع تصنيع الأسلحة النووية وحيازتها.

د) إمكانية تكوين مركز ثالث للقوة، أو تقدير للتأثير على مستوى العالمي وهذا المركز كان للصين حيث يعيش ربع سكان العالم فيها والتي ورثت حضارة عريقة فضلاً عن أنها هي التي قامت بأكبر ثورة في تاريخ الإنسانية.

وهذا الامر يتجلى أمامنا لكن الصين لم تكن تسعى الى أن تكون دولة عظمى من الناحية العسكرية ولا التنافس مع الولايات المتحدة الامريكية، ولا مع الاتحاد السوفيتي. ولكنها كانت تعمل على التحديث بهدف تحقيق النهضة الحضارية، تهدف الى أن تصبح مركزاً للتأثير والاشعاع الدولي لا مركزاً ثالثاً للقوة الحربية.

ه) إن النظام العالمي القائم جاء تتويجاً لتطور تاريخي طويل، تطور قدم لنا صورة مختلفة. فأقدم الامبراطوريات كان نظامها الهيمنة (مصر) يتمثل في شكل دائرة جغرافية يمتد نفوذها في أركانها التي يتجمع في إطارها العديد من القوميات والمجتمعات والجماعات العرقية والمذهبية، أي أن الإمبراطورية الأقوى قديماً كانت تسعى الى القضاء على من يهددها وضم أراضيه وشعوبه الى دائرة نفوذها، وأما أن تتعايش دون تفاعل جدلي أو تعايش واقتسام مناطق النفوذ.

أما النظام العالمي الحديث فقد تكون عبر عدة محاولات لإقامة الإمبراطورية الأحادية (الثورة الفرنسية). وهكذا أصبح النظام العالمي الراهن ينتهي حول قطبين (الأمريكي، والسوفيتي) فكلاهما مضطر اضطراراً لقبول الآخر والتعايش معه، وكلاهما عاجز أو يكاد على القضاء على الطرف الآخر، أو استيعابه مما أدى الى تجميد حل الأزمات المستعصية في مناطق الصراع الرئيسة في العالم.

الفصل الثالث: ثلاث رؤى لتغيير العالم

إن الاختلاف أو التمايز والتباين يتجلى في ترتيب العلاقات المتبادلة بين هذه العناصر التكونية، أي في تقييم فاعليتها الموضوعية وتأثيرها العلمي، دون التعرض لتشخصيها في المقام الأول.

ثلاث رؤى تتنازع اليوم في التنقيب عن أبعاد المستقبل مع التركيز على العملية الجدلية، أي "تغيير العالم" لا على "النظام العالمي الجديد" بالمفهوم الوصفي الشكلي الجامد وهي: 

الرؤية التقليدية، الرؤية التكنولوجية، الرؤية الثالثة.

1) الرؤية التقليدية:

من البديهي أن تكون هذه الرؤية قريبة كل القرب من التشكل الواقعي للنظام العالمي القائم المتمركز حول مركزي القوتين العظمتين. فالعوامل والعناصر التكونية الموضوعية تلعب دوراً أساسياً في التحليل، وذلك بصورة وضعية تغلب على ما هو قائم على إمكانيات التغيير، وعلى تجمع عدد من الدول المجتمع الصناعي الكبيرة الوسيطة والتي تلتف حول قيادة احدى الدولتين العظمتين. وهنا تأتي فكرة المعسكرين المتناقضين والتي ستكون بالتبعية، طبيعة اقتصادية -أيديولوجية فهناك:

معسكر دول حلف الأطلنطي: أي مجموعة الدول الرأسمالية الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مواجهتها معسكر الدول الاشتراكية: وغالبيتها العظمى أوروبية.

وانطلاقا من ذلك لم يعد هناك دور من حيث القابلية للدول التي لا تقبل احدى القياديتين. ودول عدم الانحياز تعتبر هامشية، متناقضة، متخبطة لا تستطيع أن تؤثر على مجرى الأمور بالتصويت في رحاب الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة.

وهذه الرؤية تحاول أن تقيس معدلات تفوق معسكر على الآخر. من حيث كمية الناتج القومي الإجمالي، ومتوسط دخل الفرد، كمية الأسلحة النووية والتقليدية، وكذلك المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية الإحصائية.

لذلك إن النظرة التقليدية التي لا ترى أنه" لا مفر من تغليب نظام ومذهب على الآخر". لا يمكن أن تتحقق وبالتالي لا يمكن أن تُحدث تغييراً في النظام العالمي إلا بواسطة وعبر حرب عالمية ثالثة وهو ما يرفضه المسئولين.

2) الرؤية التكنولوجية:

لم تأتي كنقيض للرؤية الأولى، ولا بديل عنفٍ، بل هي تلك الرؤية التي أطلق عليها عدد من علماء الاجتماع " المجتمعات ما بعد الصناعية" وهي التي تأثرت بدرجة بالغة بتطبيقات التكنولوجيا الالكترونية. فالعلوم التكنولوجيا تلعب دوراً مركزياً في الصناعات الحربية، وتطبيقاتها الاستراتيجية.

ويرى المفكرون والمشتغلين في العلوم الاجتماعية أن الثورة الصناعية هي التي كونت المجتمعات الصناعية المتقدمة في الغرب وقطاعات من الشرق. فمثلاً: حلت الكهرباء ثم الالكترونيات مع الطاقة الذرية محل الطاقة البخارية. 

فهذا التغيير التكنولوجي مكن القيادات الاقتصادية والعلمية من النفاذ الى مجالات لم تكن معروفة من قبل (أعماق البحار، الفضاء، والتطبيقات الإنتاجية للطاقة الذرية...).

فالإنسانية لم تعد تعيش في مرحلة "الثورة الصناعية" بل في المرحلة الثانية للثورة وقد أطلق عليها اسم" الثورة العلمية والتكنولوجية". فأعلام الفكر والعلم في كلا المعسكرين لم يعارضوا هذه التسمية لأن الولايات المتحدة ترى أن هذه التسمية تُكرس تقدمها بشكل نظري ملحوظ أما بالنسبة للاتحاد السوفيتي تعطيها هذه التسمية أملا جاداً في تحقيق هدف اللحاق بالقوى الثانية.

وهذا ما يدفعنا الى التساؤل حول علاقة هذه الرؤية بتغيير العالم؟ 

أن الثورة العلمية والتكنولوجية تضع بين ايدي الإنسانية ولأول مرة في تاريخها أدوات ذات فاعلية هائلة تغير تماماً من نوعية العلاقة بين الانسان والطبيعة (الإطار الجغرافي، الموارد الطبيعية، المناخ...). وقد مكنت الانسان من التحكم في الحياة والنسل، والهندسة الوراثية.

ولكن مرت الأعوام فجاءت أزمة البترول 1973 وانتشرت المجاعة والاوبئة في مناطق شاسعة من العالم (العالم الثالث) وارتبك ميزان المُداينة.

ومع هذا كله فإن الثورة العلمية التكنولوجية بوصفها المرحلة الثانية تمثل اسهاماً خطيراً من تقدم المعارف والقدرات البشرية، وهذه الثورة لا تقتصر على تجديد وتطوير أدوات العمل.

 ولكنها تقتضي وجود مشروع يلبي التساؤلات الجديدة التي تطرحها البشرية في مستوى متقدم خلال تطورها والتي تعتبر جزء لا يتجزأ من أداة العمل.

3) الرؤية الثالثة:

تكونت تدريجياً على أساس التمعن في عدد من العوامل المؤثرة بشكل رمزي على الساحة العالمية ومن بينها المحاور الاتجاهية ومن الممكن رسم صورة عامة لهذا الجو التكويني الذي أحاط بمولد الرؤية الثالثة كما يلي:

أ) إن مستوى التناقضات قد بلغ ذروته لكنه لم يفتح مسالك الحل، أي تغيير العالم بشكل كافٍ بل العكس كانت هذه المسالك تحت الحصار. فالعملية الجدلية بلغت ذروة ثقافتها واحترامها في الوقت الذي فرض فيه الخطر النووي جواً خانقاً لا يمكن تجاهله. بالإضافة الى أن الثورة العلمية التكنولوجية زادت الهوة بين المجتمعات الصناعية المتقدمة والقارات الثلاث.

ب) البعد الاستراتيجي-الحربي- وتأويله السياسي بواسطة الجيو-سياسة هو الإطار الأعم والأكثر شمولاً، ولكنه لا يزال يمتزج في معظم الأحيان بتأويلات أيديولوجية.

فتارةً تظل الجيو-سياسة: مستبعدة لأنها وصمة عار على جبين العلوم الاجتماعية لأنها كانت الاساس المتصل لسياسة ألمانيا واليابان، ومن جهة أخرى إن اعطاء هذه الاهمية للجيو-سياسة معناه التنكر لاختلاف المضمون الاجتماعي والايديولوجي للدول التي تمارسها.

ومن جهة أخرى يرى فريق من النقاد أن الجيو-سياسة مجموعة من أدوات التحليل السياسي والاستراتيجي تضع الجغرافيا في مكانتها المؤثرة من حيث فهم المجال ولا تأخذ عنصر الإرادة.

ومع هذا التناقض إن مراكز الهيمنة السياسية (الدول الكبرى) تمنح الجيو-سياسة المكانة الأولى في تخطيطها السياسي الاستراتيجي خاصة في معسكر حلف الاطلنطي واحتلت الجيو-سياسة المكانة الثانية بعد الأيديولوجية في الاتحاد السوفيتي. فالجيو-سياسة تحدد مدى أهمية المنطقة المعينة بالنسبة للقوى الكبرى ودوائر تحركها وسلم أولوياتها وتحدد نوعية ومستوى التفاعل بين مختلف القوى المتواجدة في المنطقة المعينة، ثم التنقيب عم الطاقات الكامنة غير المستعملة. إذاً الجيو-سياسة هي الصورة المعاصرة للواقعية السياسية.

ج) إن الإطار الجيو-سياسي يحكم ُولكنه لا يتحكم، لأن الوحدات الاجتماعية المختلفة التي تندرج فيه ليست متجانسة ولا متطابقة، لأنها لا تملك نفس الطاقات والامكانيات الحركية في تفاعلها مع معطيات ومؤثرات الإطار الجيو-سياسي.

فكل وحدة من هذه الوحدات والتي تتكون من المجتمع، الدولة تتميز بخصوصية صاغها التاريخ على مدى عشرات من الأجيال. وهنا لا بد من تعريف الخصوصية التي تتشكل من مستويات ثلاثة:

1) المستوى الأول: 

أي التركيب الداخلي الذي يصور الخصوصية والذي يهدف الى تبين النمط المتميز لاستمرار مجتمع قومي معين، نمط العلاقة المتبادلة والتأليف بين أربعة عوامل محورية تكوينية لكل مجتمع أي لكل استمرار اجتماعي:

  • عامل إنتاج الحياة المادية لمجتمع معين في إطاره الجغرافي والايكولوجي (ما يطلق عليه أسلوب الإنتاج).

  • إعادة انتاج الحياة البيولوجية (وهذا هو بعد الحياة الجنسية والبيولوجية على وجه التحديد).

  • العلاقات مع البُعد الزمني (نهائية الحياة الإنسانية، الأديان، الفلسفات).

  • النظام الاجتماعي (السلطة والدولة).

إن تطبيق هذا الربع التكويني على المعطيات الاقتصادية الأولية سوف يثري تحليلنا للمجتمعات البشرية الى درجة كبيرة.

2) المستوى الثاني:

يعني تحريك هذا المربع التكويني عبر التطور التاريخي في إطار الجغرافي المحدد:

  • فالتطور التاريخي يضع عنصر "الزمان" في المقام الأول، وهنا تأتي الأهمية المركزية للمفهوم الذي أطلقنا عليه اسم" عمق المجال التاريخي" فكلما تعمق ذلك البعد أمكن أن ندقق في إدراكنا لكيفية تحرك المربع التكويني للاستمرار الاجتماعي. (قوميات قديمة=مصر، قوميات حديثة=أوروبا الغربية).

  • عنصر "المكان": يعني على وجه التحديد أن كل مجتمع بشري يحيا ويتطور في مجال جغرافي محدد بالنسبة للمجالات الجغرافية الأخرى. وهذا ما تعنى به الجيو-سياسة، كما أنه يمارس وجوه وتطوره التاريخي في مجال جغرافي له تركيب داخلي محدد وهذا ما تُعنى به الايكولوجيا التي ترصدُ الإمكانيات والطاقات البشرية والحيوية معاً.

3) المستوى الثالث:

هو مستوى التفاعل الجدلي بين عوامل الاستمرار، وعوامل التغيير، وعلى وجه التحديد: إن تحريك المربع التكويني على مدى التطور التاريخي في اطاره الجغرافي سوف يشكل العلاقات المتبادلة، وبالتالي الأهمية النسبية لكل عنصر من العناصر التكوينية الأربعة بطريقة محددة مما يؤدي الى تشكيل الخصوصية كل مجتمع قومي محدد وذلك عبر الأجيال. 

فمثلاً: دور الدولة والجيش في الحياة المصرية، أهمية مستوى الثقافة الوطنية في ألمانيا وإيطاليا، استيعاب التناقضات في دائرة الشخصية القومية في المجتمع الصيني ...

إذاً إن مفهوم تصور الخصوصية يهدف الى تسليح الفكر المعاصر وخاصةً الفكر القومي العقلي التقدمي، بأداة علمية مبنية على التحليل التاريخي الموضوعي الدقيق، والتي تمنح الفكر المعاصر الوسيلة الفعالة للتعجيل عملية تطوير المجتمعات دون تقليد الغرب المتأزم حضارياً. وإن معرفة الفروق النوعية يمكننا من معرفة سبل التحرك مع حركة الجدلية الاجتماعية لمجتمعاتنا القومية في طورها المعاصر، 

أي أن نواكب ونمارس عملية الصيرورة التاريخية من الداخل كعقول واعية، وصاحبة سيادة، لا عقول عملية لقوى الهيمنة الخارجية التي لا تهدف إلا الى الاحتفاظ بالعالم غير الغربي في مكانة التبعية بينما وجهته (العالم الغربي) هي النهضة الحضارية.

 د) صياغة مشروع التحرك صوب عملية التغيير، أي القبول بفكرة التحدي، تحدي حدود الظروف الموضوعية بهدف تخطيها نحو ما هو مغاير وجديد. وهو تحدٍ ينطلق من معرفة دقيقة لما يمكن أن يطلق عليه دائرتي الجدلية الاجتماعية- (الدائرة الخارجية: أي الجيو-سياسة، والدائرة الداخلية: أي الخصوصية القومية في إطارها الجيو-ثقافي والحضاري).

وإن التركيز على التنقيب في أبعاد ومكونات وتكوين الخصوصية القومية هو وحده الذي سوف يمكننا من معرفة الطاقات الكامنة غي المستعملة، أو حتى غير المرصودة، وتعبئتها الفعالة، أي الانتقال مما هم ممكن الى ما هو واقع، أي من الإمكان الى العمل.

ه) الاسهام المتمايز لهذه الرؤية الثالثة: فالشرق هو الذي بدأ بالتحرك في موجة عارمة من ثورات وحروب تحرير الممتزجة بالثورات الاجتماعية بحيث أصبح حامل لواء التحدي الرئيس للنظام العالمي القائم وصاحب المصلحة الرئيسة في عملية تغيير العالم. فصحوة الشرق الحضاري كانت في الرؤية الأولى والثانية ويقال عنها أنها استقلالية وليست تحررية ثورية بمعنى الكلمة. وهي في مضمونها تهدف الى التنمية والتحديث وليست نهضة حضارية (جزء الأكبر من أفريقيا، والعالم الإسلامي-العربي) أما الرؤية الثالثة فتقرر أن الشرق الحضاري هو مكان الريادة أو المبادرة التاريخية في طرح إشكالية تغيير العالم.

الفصل الرابع: منطقتا الصراع الرئيستان:

أولاً: 1) إن أهم الأسباب المغايرة للعنف ترجع الى التكوين غير المتجانس للدولة المتحركة في اتجاه الوطني فمنها:

  • الذي ينتمي الى نوعية الأمة بمعنى الكلمة بكل ما تشتمل عليه الأمة من عراقة حضارية، واستمرار تاريخي، وتماسك اجتماعي. هذه العوامل التي تؤمن هذا النوع من الأمم ضد الانشقاق الداخلي وتفسخ الإرادة الوطنية والنزعات الانقسامية التي تعمل على إثارة الفتن المؤدية الى الحروب الأهلية (مصر، الصين، اليابان).

  • الأمة-والدولة حيث نرى الغالبية من سكانها الأصليين تعيش تحت سطوة، أو سيطرة، أو قيادة أقلية هامة من الغزاة المستوطنين فرضوا حضارتهم، ثقافتهم، ولغتهم بالتدريج على هذه الدول "ثنائية البنية" وفي هذه الحالة تتفجر الصراعات العنيفة، بشكل شرس بين الجماعات البشرية التي أصبحت هامشية.

  • من ناحية ثالثة هناك نوعية الدول حديثة التكوين والتي تجمع عدداً من القبائل والجماعات العرقية المختلفة والتي تكون خاضعة في العادة لسيطرة احدى هذه القبائل في أطر جغرافية سياسية مفتعلة فرضها المستعمرون (البريطانيون، الفرنسيون والألمان، على شعوب القادة الأفريقية).

  • الأمة التجمعية، أي متعددة القوميات، وتتجلى بشكل ساطع في كل الاتحاد السوفيتي بقطاعيه (الأوروبي، والأسيوي) هذا عدا عن نظام الطبقة المغلقة التي تمتد عبر سلم الطبقات الاجتماعية المتعارف عليها. وهناك التناقض الرئيسي بين الإسلام السياسي والحضاري الذي مكن بريطانيا في إثارة الحرب الأهلية في الهند 1947 حيث انقسمت شبه القارة الهندية الى دولتين (الهند وباكستان وذلك على أساس عرقي ولغوي- الى باكستان وبلغت هذه الأزمة ذروتها بمقتل رئيس وزراء الهند أنديرا غاندي 1984).

  • وأخيراً نوعية الأمة-الدولة المتعارف عليها من الطراز الأوروبي حيث تتعدد القوميات والجماعات العرقية تعدد أمكن تصنيفه بشراسة في العصر الحديث في شكل حروب دنية.

  • نجد نمط الولايات المتحدة الأمريكية المتفرد من سحق السكان الأصلين (الهنود الحمر) ومحاصرة السود المحررين من الرق بعد حرب أهلية.

2) وهناك مصدر آخر للعنف: وهو عامل "العنصرية العدوانية" التي يتمركز حسب التسلسل الزمني في دولة جنوب أفريقيا ثم دولة إسرائيل الصهيونية. 

3) وبعدها عامل الإرهاب الدولي بكل ما يكيفنه عن غموض وتشعب في الدوافع من قومية، الى أيديولوجية، الى سياسة، استراتيجية على أرضية من التحول الاجتماعي المتخبط السريع وتفشي الفكر الرافض والقدمي في قطاعات من شباب الدول الصناعية الغربية التقدمة.

إذن هذه هي المصادر الثلاثة الأكثر أهمية للعنف في العالم والتي تواكب المصدر التاريخي الرئيسي في عصرنا ألا وهو حركات وحروب وثورات التحرر الوطني والاجتماعي.

ثانياً: 1) إن مفهومي "القوة والتأثير" مفهومان لا يمكن إدماجهما بشكل مفتعل في قلب واحد. "فالشرعية التاريخية" والتي يمتزج فيها مفهوما "القوة والتأثير" بدرجات متفاوتة. فالمركز يؤثر على دائرة تحركه أو شرعية تاريخية.

فلو رسمنا بشكل تقريبي دائرة النفوذ الغربي حول الولايات المتحدة، ودائرة نفوذ اشتراكي شرقي حول الاتحاد السوفيتي، ورسمنا تأثير الصين في قلب العالم الآسيوي الأفريقي لرأينا أن هناك عدة مناطق تتلاطم فيها دائرتان من هذه الدوائر الثلاث فمثلاً (أوروبا بقطريها أمريكا الوسطى، والقارة الأفريقية). فهناك فقط منطقتين تتقاطع فيها هذه الدوائر (أمريكا، الاتحاد السوفيتي، الصين)، رغم تباين طبيعتها ألا وهما شمال شرق أفريقيا، وجنوب غرب آسيا أي ما يسمى "الشرق الأوسط" حول العالم العربي وقلبه مصر الذي يتميز بحدة التناقضات، وخصوبة الإمكانات أي أن التناقض الجدلي يبلغ ذروته في هاتين المنطقتين. إن الشرق الأوسط في قلب الدائرة الحضارية ألآسيوية الافريقية حول مصر:

  • إن الهيمنة الغربية راحت تغزو والشرق فأصبح الرباط بين العالم الإسلامي وآسيا أكثر تلاحماً من الارتباط بين العالم الإسلامي والقطاع المواجه من الحضارة الهندية-الأوروبية. فالدائرة الثقافية العربية، داخل الاطار الثقافي الحضاري الإسلامي هي أكثر الدوائر استجاباً ووحدة وذلك بفضل وحدتها اللغوية العربية ( لغة النبي ).

 فإن عملية الوحدة العربية هي عملية تفاعل تاريخي وتوحيد، كفاح الجماهير الشعبية في العالم العربي، فالعالم العربي يكون أحد قطاعي الدائرة الحضارية-الثقافية الإسلامية، وهو المركز الحي الأول لهذه الدائرة وهو (العالم العربي) النقيض التاريخي والعصري لعملية التناقض الجدلي بين التحرك الغربي وتحرك الشرق الناهض. لذلك إن العرب كشعوب ومنذ اللحظة الأولى حددوا بأنفسهم شعاراً واحداً لم يتبدل هو شعار النهضة التي كانت دعوة (محمد علي، إبراهيم باشا، رفاعة الطهطاوي، علي مبارك في مصر، ودعوة عبد الكريم الخطابي في المغرب عنواناً وشعاراً للنهضة الأدبية والثقافية في مصر، ولبنان وسوريا، وفلسطين).

ورداً على ذلك يقول: "أنور عبد الملك" في هذا الكتاب" تغيير العالم": "ليس العالم العربي ومعه مصر، مجموعة من الجزر النائية حظيت فجأة بمقعد في الأمم المتحدة، ليست مصر دولة مُحدثة ولدتها ظروف دبلوماسية طارئة، ليست الثقافة العربية تجمعاً هزلياً من المؤشرات السياحية ومظاهر التخلف ولهجات الضياع. ليس الإسلام، ولا المسيحية الشرقية، عقائد وقتية وسطحية مصطنعة في بيئاتنا العربية، وليست الدول العربية حول الدولة المصرية تجمعات من العسكر والمماليك المتخاصمين والمرتزقة الأجانب والمكاتب المختلفة، ليس العرب شعوباً ودولاً، مجموعة احتياطي البترول، ولاهم مجال لتوظيف رؤوس الأموال السياحية، ولا هم مجموعة من المجتمعات الجرداء المتعطشة الى غزو الغرب على اختلاف أعلامه بُغية تحضرهم وتحويلهم الى جماعات بشرية عصرية محترمة. إن تحرك العرب وتحرك مصر لا يمكن أن يكون إلا هادفاً الى الجمع بين الثورة الوطنية التحررية والثورة الاجتماعية الجذرية في سبيل تحقيق النهضة الحضارية للعالم العربي".

  • شهد التاريخ أن الغرب المهيمن لم يخطئ الحساب إذ ركز الغرب على منطقتنا العربية (مصر، سوريا) خاصة مستهدفاً بذلك منع تكوين دولة عصرية مؤثرة تصلح مركزاً لهذه المنطقة. وذلك ابتداء من الحروب الصلبية، ثم توغل الاستعماري ومحاولات إضعاف الحكم الوطني بكافة الوسائل. منذ جاء الاتفاق على تقسيم فلسطين 1947، وإنشاء الدولة الصهيونية على أرض فلسطين الى حرب لبنان.

ولقد ضاعف من شراسة هذا الهجوم شعور دول الغرب الاستعمارية بتهديد بعيد المدى بعد أن حدد "جمال عبد الناصر" مكانة مصر ودوائر تحركها الثلاث بأنها

(عربية، إفريقية، إسلامية). وإذا تمعنا النظر في حقيقة " الاستعمار الصهيوني" فالواقع والتاريخ معاً يؤكدان أن أساس الأزمة في الشرق الأوسط ليس قضية فلسطين وحسب بل يؤكدان أن المنطقة المعروفة في الغرب بالشرق الأوسط كانت منذ أكثر من 50 قرناً منطقة الصراع المصيري الرئيسي بين دول الشرق وحضاراته من ناحية والغزاة الآتين من الشمال من ناحية أخرى. فكانت وجهة الغرب الحضارية وحروبه وغزواته وأهدافه السياسية، والدنية، والأيديولوجية والفكرية والاقتصادية كلها تهدف الى شيئا واحد ألا وهو تحطيم كافة المحاولات الهادفة الى إنشاء دولة عربية في قلب الحضارة الشرقية الإسلامية كي تستطيع أوروبا أن تسود وتهيمن بالسلاح والفكر.

ويؤكد الواقع والتاريخ أنه ابتداء من احتدام أزمة النظام العالمي وفي مواجهة اشتداد الموجة الثورية داخل الحركة الوطنية التحررية العربية كان لا بد من إقامة السد تلو السد: (اتفاقية صدقي بيفن حول إقامة الحلف العسكري في الشرق الأوسط، حلف بغداد، تقسيم فلسطين، إنشاء الدولة الصهيونية) لتكون رسولاً للغرب، وقلعة للاستعمار وسوطاً يلهب ظهر حركة التحرر والوحدة في الوطن العربي. فهي ليست ظاهرة استعمارية "متفردة" بل هي الوجه المعاصر الأكثر عنصريو والأكثر عدوانية للاستعمار الغربي ضد العرب عبر التاريخ التي تكشف بشك استفزازي حقيقة القوى المُعادية للأمة العربية، وهو من أخطر أنواع الاستعمار، لأنه استعمار ضد عقلانية العلاقات الدولية، وضد التعايش السلمي، وإعادة تشكيل موازين القوى والنظام الاقتصادي العالمي الجديد.

 2) الصين: بعد إبرام المعاهدة الصلح والصداقة مع اليابان 1978 والتي استمدت أهميتها من أن الصين تعتبرها ضرورية لبنائها وجعلها فعالة في العالم الثالث. لكن النظرة اختلفت الى هذه المعاهدة في الشرق العربي وذلك لأسباب جيو-سياسية لان لها مناطق شاسعة تتسم بالوحدة القومية في كل البلدين.

وإذا نظرنا الى اليابان منذ سنوات لرأينا أنها استطاعت أن تحقق ما يسمى بالمعجزة فهي لا تملك طناً واحد من الطاقة ولا مواد الخام، لا بترول، لا حديد لكنها أقامت مؤسسة صناعية وتكنولوجية فأصبحت اليوم ثالث قوة في العالم. وإن كانت في الواقع ثاني قوة إذا نظرنا اليها من حيث معدل النمو وفاعلية التطبيق فهي تأتي بعد الولايات المتحدة لكن هذا النجاح له حدان: فاليابان بهذه القوة الخارقة تغزو أسواق العالم الصناعي المتقدم. وفجرت أزمة الطاقة عوامل أدت الى انكماش الاقتصادي الصناعي الرأسمالي المتقدم مما دفعها الى فرض حماية متزايدة على منتجاتها الوطنية (السوق المشتركة).

ولكن المعاهدة بين الصين واليابان تعنى ما هو أكثر بكثير من فتح سوق وإن كان أكبر سوق في العالم، إنها تعني إن أكبر دولة في الشرق-الصين تحت لواء الاشتراكية وهي أيضاً ثورة في تاريخ الإنسانية، وفد خلقت هذه المعاهدة مركز قوة في منطقة الشرق الحضاري الذي يجمع بين المادية والنفوذ المعنوي، قوة قومية قادرة على التطوير والتحديث الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي.

إن هدف هذه المعاهدة كان إبعاد الهيمنة أيا كانت وهذا هو الأساس بالإضافة الى اعتراف أكبر دولة في الغرب-الولايات المتحدة بالصين- إثر هذه المعاهدة.

وهذا المركز للقوة الجديدة في شرق أسيا يتميز عن المركزين الآخرين بأنه شرقي وحسب، وتتشكل فيه الحضارة الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، نظام الحكم...

3) هذه هي أرض التأجج، منطقتا التناقض والحيوية القصوى، والتي تتفجر فيها مجموعة من التناقضات فالنظام العالمي القائم لا يمكن أن يفسح المجال لما يبدو موضوعياً إن بمثابة تهديد لمكانة القوى العظمى المسيطرة وخاصة الاستعمار.

فالمطالبة بتغيير العالم تمثل الخاصية المميزة وضرورة حيوية لكل في هاتين الدائرتين وكلتاهما تمسك بمفاتيح التأثير المركزي في قلب الدائرتين التكوينيتين للشرق الحضاري (الآسيوية حول الصين مستندة الى اليابان وكوريا، والدائرة الإسلامية الآسيوية الأفريقية حول العالم العربي وفي قلبه مصر). لذلك نؤكد على ريادة هاتين الدائرتين في عملية السعي لتصور عملية تغيير العالم وتحقيقها.

الباب الثاني: قنوات التغيير

الفصل الخامس: السوق العالمية: الطريق المسدود

الفصل السادس: الحياة الاجتماعية والثورة العلمي والتكنولوجية

الفصل السابع: دور الأفكار الأصولية والتحديث الوطني

الفصل الثامن: في التساؤل الفلسفي ولإيماني

الفصل التاسع: السلطة الاجتماعية

الفصل العاشر: ثقل الجيو-السياسة

الفصل الخامس: السوق العالمية: الطريق المسدود

سنبدأ بالمسح العام لتغيير مختلف أوجه النشاط الاجتماعي والحياة العامة بقطاع الاقتصادي، الذي يتناول توفير القاعدة الأساسية لحياة البشرية على اختلاف أنظمتها الاجتماعية. 

1) كان نظام الاقتصادي التقليدي يقوم على أساس أنظمة اقتصادي متنوعة ترتكز على فكرة السوق المحلية لتستطيع الحكومات التحكم في المسار الاقتصادية البعيد المدى وكان لا بد من إقامة نمط منسق للعلاقات الاقتصادية الدولية (كضبط، معدلات الأسعار).

فالدول الصناعية التقدمة تلعب الدور الأول من حيث زيادة الإنتاج، وبقيت المناطق غير العربية تلعب دوراً المُورد الأساس للمواد الخام وتقوم بدور السوق الثانوية بتصريف منتجات الدول الصناعية المتقدمة.

2) بعد الحرب العالمية تدمرت قطاعات واسعة في الهيكل الاقتصادي الإنتاجي في القارة الأوروبية فاحتاج هذا الهيكل الى إعادة بناء وتحديث. فكانت حركات التحرير في العديد من دول آسيا وأفريقية شجعت على إقامة اقتصاد وطني عصري بها. فيقلل من تصديرها للمواد الخام.

وإن احتياجات الحرب أدت الى التعجيل بالبحث العلمي التطبيقي (تصنيع القنبلة الذرية) فتطورت الصناعات التحويلية، وكان هذا عصر النمو الهائل للصناعات الكيمائية، وتلاه عصر الالكترونيات في مختلف قطاعات الإنتاج والاتصال، والاعلام وأطلق على هذه المرحلة ب "الثورة العلمية التكنولوجية" وذهب البعض الى استعمال عبارة " المجتمع ما بعد الحداثة..."

من هنا تركز الاختلاف بين العصرين في ظاهرة "الانفتاح" أي الانفتاح الأسواق الاقتصادية الوطنية. وفي هذا الجو الجديد استطاعت الولايات المتحدة. أن تستغل إمكاناتها الهائلة في إدارة الاعمال وتقدمها في تكنولوجيا الاعلام والاتصالات الجماهرية وراحت تؤكد سيطرتها على اقتصاديات في العالم وهذا كان السبب في نشأة الشركات متعددة الجنسيات 1945. أما اليابان فهي القوة الاقتصادية الثانية في القطاع الرأسمالي فقد اختارت لنفسها استراتيجية تهدف الى تركيز الاستثمارات في القطاع الذي يعتمد على الابتكار التكنولوجي فكان هدفها هو مضاعفة الإنتاج الى أبعد درجة (صناعة السيارات) فاستطاعت أن تحقق تراكماً هائلاً من الأرباح غير الموزعة والذي استعملته لإقامة شبكة قوية واسعة من الشركات والمؤسسات في مختلف أنحاء العالم.

3) أما بالنسبة للقارات الثلاث: فتوكد الأرقام أن نمو الصناعة التحويلية في هذه المناطق بلغ معدل 10% من عام 1960 الى 1973 ثم انخفض الى 3,7% بين 1973و 1977 وانحدر في السنوات الأخيرة، كما تؤكد انحدار التجارة الدولية من 8,5% سنوياً قبل عام 1973 الى ما يعادل الصفر عام 1980و 1981 ثم 5,1% أي أن الحركة كانت حركة استيراد المنتجات الجاهزة نمن الدول الصناعة المتقدمة في انخفاض الصادرات من السلع المنتجة في القارات الثلاث.

وأكدت الاحصائيات أن معدل النمو في الدول النامية تراوح بين 2,1% سنوياً وهو أبطأ معدل نمو منذ نهاية الحرب العالمية مما ضاعف ديوان القارات الثلاث من 100مليون دولار الى 650 مليار دولار الى 810 مليارات دولار عام 1984.

4) إن هذا التفاعل الجدلي غير المتكافئ (بين الدول الصناعية والدول النامية) كان العامل التكويني الرئيسي في تحقيق السوق العالمية حول القطب الرأسمالي الاحتكاري. لذلك إن فكرة تواحد أسواق عالمية ثلاثة أو وجود سوقين لم تتحقق واقعياً بشكل متكامل.

5) وهنا يلعب عامل العلم والتكنولوجيا دوراً مركزياً لجوانبي الهيمنة والتبعية، فجميع الدراسات تؤكد تمركز الصناعات والاختراعات العلمية في دائرة الدول الصناعية. وهناك تقدم علمي في الهند والبرازيل، أما الصين فقطعت شوطاً كبيراً للحاق بالدول المتقدمة اعتماداً على دمج تراثها العلمي والتكنولوجي بأحدث وسائل الابتكار والابداع الذاتي في عصرنا.

 ونشأ على هذا الموقف "فكرية نقل التكنولوجيا" المواكبة لتدفق الصادرات القادمة من الدول الصناعية المتقدمة الى المجتمعات النامية التي كانت إشكاليتها التقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا من أجل صون استقلالها. من هنا أتت إشكالية التنمية التي اعتبرت هدفاً للدول الصناعية، فالإرادة السياسية والتي تعني إصرار قيادة الحركة التحريرية والدولة الوطنية المستقلة الناتجة عن تحقيق استقلالية الوطن فهذه الإرادة هي القاعدة التي سوف تمكن جهاز التنفيذ أي النظام الارادي أن يعمل بشكل فعال ومستقر بحيث تتصل عملية التقدم في الاتجاه الذي حددته القيادة السياسية الوطنية المستقلة المتجهة الى المستقبل.

لذلك إن مجال الاقتصادي لو نظرنا اليه في حد ذاته وبمعزل عن بقية عناصر الجدلية الاجتماعية لظهر كأنه طريق شبه مسدود لا يمكن من خلاله أو من خلاله وحده تغيير العالم. ومن هنا كان لا بد من وضع الأمور في نصابها أي وضع الاقتصاد في إطار الجدلية الاجتماعية بكافة عناصرها والتي يلعب فيها القرار السياسي المنطلق من وجهة حضارية محددة الدور المركزي.

الفصل السادس: الحياة الاجتماعية والثورة العلمية      

والتكنولوجية

اعتبرنا فيما سبق أن الحياة الاقتصادية في نوعيتها وتنظيمها في عالمنا المتغير هي القاعدة الركيزة وأنها أرضية لتحول سريع، تميز به هذا النظام الاقتصادي. فالثورة العلمية والتكنولوجية أثرت تأثيراً بالغاً وعميقاً في عدد من القطاعات في دوائر اقتصادية وكان لا بد من أن تتأثر الحياة الاجتماعية بهذا الجو المتموج لأنها محور العمل الواعي للطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة. ومن أبرز التغييرات التي طرأت على هذا المجال، مجال حياتنا الاجتماعية على تنوعها: 

1) تجمعت الفئات الاجتماعية المختلفة بعد الثورة الصناعية وتكونت المجتمعات الرأسمالية بقيادة البرجوازية في وحدات اجتماعية اقتصادية أكثر تجانساً، تلعب كل نها دوراً متخصصاً في عملية الإنتاج.

وهكذا ظهر مفهوم "الطبقة الاجتماعية" الذي صاغته الماركسية وأصبح شائعاً في العلوم الاجتماعية على تنوع مذاهبها. فالطبقة الاجتماعية اختلفت من حيث التكوين الداخلي في نوع المجتمع (المجتمعات الصناعية، والمجتمعات الرأسمالية).

  • ففي المجتمعات الرأسمالية: ازدادت الهوة أتساعاً بين أقطاب القطاع القائد في الطبقة الرأسمالية (رئاسات الشركات المتعددة الجنسيات)، وبين فئة الرأسمالين التقليدين الذين ما زالوا يتولون رئاسة الشركات الصناعية والمالية والتجارية والزراعية الكبيرة والمتوسطة.

وتطورت الطبقة العاملة الصناعية التقليدية في المجتمعات، وبرزت فئة الكوادر التكنولوجية وخاصة فئة التكنوقراط الذين أتقنوا فن الجمع بين التطبيقات التكنولوجية للعلوم الحديثة في مجال الإنتاج (الذين ينفذون سياسة الطبقة الحاكمة، التكنوقراطية). وفي هذه المجتمعات الصناعية يلعب الإنتاج الزراعي دوراً هاماً في رقي المجتمعات الصناعية ومستوى الاستهلاك فيها، لكن هامشية الريف، أي تغيير التشكل الطبقي الداخلي تتبدى في هجرة الفلاحين، وحلول شركات الملكية والإنتاج الزراعي محلهم، وهي عملية تمثيل " نهاية الفلاحين".

  • أما المجتمعات الصناعية فالصورة تختلف عن المجتمعات الرأسمالية لأسباب سياسة أيديولوجية واضحة. فالطبقة الحاكمة تمثل على وجه الدقة فئة اجتماعية وليست طبقة، ما دامت وسائل الإنتاج مملوكة للمجتمع باسره متمثلاً في الدولة. 

تتكون هذه الفئة في الأساس من الحزب الوحيد أو القائد على اختلاف تسمياته. ولعل أهم تغيير في تكوين هذه الفئة هو انضمام نسبة كبيرة من الفئات المهيمنة والتكنوقراط، وفئات المتخصصين في مختلف فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجيا اليها. وتجدر الإشارة الى أن هناك ظاهرة جديدة تمثل أخطر تغيير حدث في الريف الاشتراكي ألا وهي إعادة تمليك معظم الأراضي الزراعية لوحدات أسرية تزرعها وتبيع محصولها بشكل مباشر للسوق في الريف والمدينة. وبعد تسليم نسبة قليلة الى الدولة ومجلس الإقليم. وهذه السياسة التي أطلق عليها "الإصلاح الاقتصاد الجديد".

  • أما الدول النامية في القارات الثلاث فأن الطبقة الحاكمة في هذه المجتمعات تختلف اختلافاً هائلاً حسب يقدم كل منها في سلم التطور التاريخي وكذلك خصوصية المميزة. فالطبقة الحاكمة في هذه المجتمعات تمثل تجمعاً من فئات الأقلية المهيمنة في القطاع التقليدي من الاقتصاد والمجتمع وخاصة الريف والمناطق التمركز السكاني القديمة.

أما طبقة العمال الصناعيين أو الطبقة العاملة بالمعنى الواسع فإنها تتخذ شكليين: إما أن يكون لها دوراً يزداد أهمية باطراد في الدول التي تسعى الى تحقيق مشروع وطني بعيد المدى يرمي الى تحويل المجتمع من رأسمالي متخلف يهيمن عليه القطاع الزراعي الى مجتمع تصبح فيه الصناعة هي القطاع الرائد (مصر، سوريا، العراق). أما الدول التي لا تزال تقبل منطق التبعية، أما ابتداء في ضعفها أو على أساس تولي فئة الرأسمالية السمسارية تقاليد الحكم بها فسيكون من شأن الطبقة العاملة فيها ألا تتقدم الا بشكل رمزي وكأنها في حصار من القدر يمتزج بالقمع المستمر. 

2) إن الفوارق شاسعة بين مختلف أنواع المجتمعات وإن كان الفارق يتجلى بشكل ساطع بين المجتمعات الصناعية المتقدمة في الغرب، وبين الدول الاشتراكية ودول الشرق الحضاري في آسيا وأفريقيا بوجه عام.

أ) ففي الدول الصناعية المتقدمة في الغرب: يبدو كل شيء وكأنه يدفع الى رفع الحواجز وتحرير الأفراد من القيود المحبطة والى زيادة الأسباب والتداخل الاجتماعي فالأنماط القديمة والسلوكية السائدة في المجتمعات الصناعية تقوم على أساس العمل الإنتاجي الذي يُسوق الى التمييز بين الأجيال المختلفة حسب مدى اسهام كل منها في العملية الإنتاجية، وبالإضافة الى انتشار البطالة التي أدت الى التقليل النسبي من أهمية العامل الاقتصادي والعودة الى الاهتمام بمجال القيم وخاصة القيم الاجتماعية التي تتجه الى فقد مركزية العمل الإنتاجي بالمقارنة مع توسيع وقت الفراغ والإفادة منه.

لذلك فإن المجتمعات الصناعية المتقدمة في الغرب لا تزال تثبت بوضوح أنها قادرة على مواجهة تحديات التغيير الاجتماعي بفضل عاملين مركزيين:

  • التراث الحضاري الموروث بكل ما يمنحه من مقومات الاستمرار الاجتماعي.

  • الديمقراطية على صورتها الليبرالية الغربية التي تفتح مجالاً واسعاً للتعبير عن هذه التناقضات واقتراح البدائل ولاستيعاب النواحي السلبية فيها.

ب) أما بالنسبة للذين يعيشون في مجتمعات الشرق الحضاري، فيتمثل القاسم المشترك بين القطاع المتقدم اقتصادياً من دول الشرق والدول الاشتراكية في الأهمية لا بل وأولوية روح الجماعة على النزعة الفردية، وكذلك أهمية وثقل القطاع الريفي التقليدي.  

فكلتا المجموعتين تسعيان سعياً حثيثاً الى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل والثقافية والإنسانية بحيث يتوجب عليهما منح قدر متزايد في الاهتمام بسلم القيم الأخلاقية والفلسفية والدينية والأيديولوجية وفي محاذاة الحفاظ على قوة تركيز السلطة الاجتماعية.

وهذا عدا دور المرأة في التنمية التي سعت اليها المجتمعات الشرقية الشرقية والغربية وكذلك بالنسبة للدور المسنين والشيوخ فبمكانتهم في المجتمعات الاشتراكية الغربية أقرب الى مفهوم "الحرس القديم" فيها الى أولوية الحفاظ على الخصوصية الحضارية، والاستمرار التاريخي والقومي. لذلك إن التواكب الموضوعي والأسباب المختلفة بطبيعية الامر بين القطاع المتقدم بين المجتمعين (الشرقي، الاشتراكي) يفسح مجالاً عظيماً لتغيير أنماط الحياة الاجتماعية في اتجاه يمتزج فيه التقدم الاجتماعي باستمرار الخصوصية الحضارية والشخصية الوطنية.


الفصل السابع: دورة الأفكار: الأصولية والتحديث الوطني 


أولا: تطور المسار العام لحركة الفكر والثقافة في العالم المتقدم بشكل مذهل أي منه عصر هيجل وماركس وداروين وسبنسر. 

  1. كان المضمون المشترك المدارس الفكرية فبدت الولايات المتحدة العملاق الجديد الذي يتلخص في الايمان بفلسفة التقدم والسيطرة على كافة الأقطار والشعوب، التقدم المطرد والسريع في كافة مجالات العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية، والتقدم المواكب لانتصار قيم عصر التنوير والثورات البرجوازية الديموقراطية في حرية واخاء ومساواة. تقدمات كثيرة جعلت الانسان يتحول من كائن فانٍ الى مالك الأرض وصانع مصيرها ومقرر مستقبلها دون شريك. هذا الواقع يعكس واقع التقدم أي تقدم الانتشار والسيطرة الأوروبيين على مجالات واسعة من المعرفة والعلوم. واقترن هذا الجو بإقامة الأنظمة الفكرية الكبرى لفلسفة والتاريخ (هيجل وماركس) فكلا الفلسفيتين تتسما بإيمانهما التكويني بحركة التاريخ الجدلية.

  2. عكس هذا الجو الفكري الثقافي التقدم المذهل الذي أحرزته الإنسانية أي الغرب المتقدم في ذلك العصر. لكن فكرة أيديولوجية المجتمع التقليدي وهي فلسفة مثالية جوهرها ديني، ونظرتها جامدة الى الواقع التاريخي. لم تكن تؤمن في الأساس بالصيرورة ولا بالتطور الا بشكل رمزي أو واقعي سياسي يسجل الاحداث دون رؤية واضحة للعملية التاريخية في مجموعها. 

ثم جاءت الاكتشافات البحرية تفتح العالم باسم أوروبا بالمسيحية وبدأ بذلك عصر الاكتشافات العلمية الكبرى (علم الفيزياء، الفلك، علوم الرياضيات...) هو انقلاب العلمي الذي أدى الى فتح المجال أمام نقد الفكر التقليدي وإرساء بدايات الفكر العلمي الذي تطور الى فكر علماني.

وكانت خلاصة هي التجول من جمود الفلسفة التقليدية والعقلية، الدنية التراثية والموقف الوضعي في الجو الفكري والثقافي العام، الى الجو الجديد ألا وهو الايمان بفكر وفلسفة التطور.

ثانياً: أما في الشرق الحضاري: فقد تطورت الحياة الفكرية الثقافية في شكل مختلف، يمكن أن يوصف بأنه رد فغل استراتيجي للتوغل الغربي الذي أخذ شكل الطوفان، وكانت المشكلة في كيفية التعامل مع هذا الجديد الفاتح مع الحفاظ على الخصوصية الحضارية والشخصية الوطنية. وهذا ما عبرت عنه مقابلا مثل: (الاصالة والتحديث، القديم والجديد، الأصولية والحداثة). هذه الإشكالية علجت من قبل تياران:

  • الأصولية الإسلامية: بدأت انطلاقتها الجديدة على ايدي جمال الدين الافغاني ومحمد عبده على أساس العودة الى مصادر الايمان الخالصة من التحريفات التي يرى أنصار هذا التيار أنها نتجت عن عصور الانحطاط. لذلك لا بد من وجود حوار مع العصور الجديدة بواسطة استخدام حذر ومستمر للعقل السليم. المقصود هما هو نوع من البراجماتية، لا العقلانية تسمح بمناقشة مقبولة ما دامت لا تتحول الى صراع جدلي هادم للوحدة. فالمصدر هنا هو الأساس الثقافي العام، ويتعين في هذا التيار وحسب رأي مفكريه دمج الأفكار الجديدة والفعالة دون أن تطغى عليها والتفسير سيكون في اتجاه محافظ.

  • العصرية الليبرالية: نقطة الانطلاق هنا ليست نهضة الحضارة الغربية، بل على الفكر العلمي، والعقلانية الفلسفية والليبرالية السياسية، والهدف هو خلق مجتمع عصري مماثل لمجتمعات أوروبا وامريكا الشمالية، يسير نحو الامام مع احتفاظه بالتقليد المستمد من الماضي والتي لا تحول دون بنائه.

ويضم هذا التيار اتجاهات مختلفة بدءاً من الليبرالية المحافظة (البرجوازية الريفية) حتى الماركسية.

المهم في هان التياران هو أن كل واحد فيهما متشابك في عقدة سوسيولوجية تعبر عن تطلعاته ورؤيته للعالم.

من الجدير بالذكر هنا هو تفاعل بين عمق المجال التاريخي، وتفاوت مدة التفاعل مع التوغل الغربي لأدركنا السبب الحقيقي الذي جعل من منطقة شرق ووسط جنوب أسيا منطقة الصمود الأكبر في مواجهة سياسة الهيمنة السياسية والفكرية الغربية، بالمقارنة مع جنوب آسيا، ولأدراكنا أن المنطقة الأولى أكثر مقدرة على التعامل مع معطيات التوغل الغربي والإفادة منها الى حد التفوق عليه.

ثالثاً:

1) رأينا كيف اتسم الفكر والثقافة في الغرب المهيمن بإيديولوجية التقدم المواكب للسيطرة الغرب على كافة أنحاء المعمورة، واندلاع حركات التحرر الوطني نتيجة لذلك. 

لذلك اتخذت الجدلية الاجتماعية في الغرب شكل الصراع الطبقات داخل كل دولة منه، وأحيانا شكل الحرب بينها هذا بقراءة داخلية له. أما من الخارج فالعملية أخذت شكل التحضر الذي تتجه فيها الحركات الوطنية الى استهداف تحقيق التحرر الوطني بوصفه شرطا لا غنى عنه للنهضة وبناء الامة.

فعملية التحضر هنا تضمنت مرحلتين: 

  • الاستقلال الشكلي: فتبدو الثورة الوطنية كافية لمواجهة الاستعمار محدود المدى والاختراق.

  • المرحلة الثانية: فهي تسعى الى أن تجمع بين الثورة الوطنية (التحرر الوطني) والثورة الاشتراكية.

فأصبحت الساحة الرئيسة لحركات التحرر والحركات الثورية في الشرق مفتاح للنهضة هذه الدول (الشرقية). وهذه النهضة أسهمت في إحياء تطوير حركات اجتماعية وسياسية من طراز جديد في الغرب، وقد شرع الشرق يمسك بزمام المبادرة التاريخية، وظهور شهادة جديدة على هذه الحركة المزدوجة تمثلت في أزمة الغرب ونهضة الشرق، الا وهي الاتجاهات القلقة والمضطربة التي تتبدى لدى الشباب في دول الغرب الصناعية المتقدمة، والتي تعبر عن نفسها في نزعة يوتوبية، والشعور باليأس، والارتحال المستمر. لذلك إن تحرك الشباب في الغرب يتخذ شكل العنف الانتقادي ضد الجيل الأكبر.

2) لذلك كله إن العناصر التكوينية لأشكال الأيديولوجية السائدة إنما يتجه الى مجال الجدلية الاجتماعية للعالم الواقعي. لذلك سوف تكتسب عدة اشكال وانماط لكنها سوف تدور كلها حول واحد من اختيارين مركزين: المحافظة والتغيير 

فالمحافظة تمثل العنصر المركزي في الأيديولوجية السائدة التي تفترض طرق البقاء عليها. وتتعلق القضية هنا بنوعية الإجابات التي سوف ترد عليها الايديولوجية على الأسئلة التي تطرحها الازمة في حقبة الحركة المزدوجة للتاريخ.

لذلك إن أوجه التناقض وعدم الاتساق العديدة في حركة المجتمعات (في اعقاب حربين عالميتين –نهضة الشرق- التغيير العلمي والتكنولوجي- تصلب الاشكال السياسية للدولة...) تكشف على أنه يصعب إقامة علاقة مستمرة بين" المثل" سواء اتسمت بالطابع الواقعي أو اتخذت صورة يوتوبية، وبيت تحقيق ذلك المثل في العالم المعاصر. 

ومجمل القول إن المشكلة تتلخص في السؤال التالي: كيف يمكن احداث تغيير مثالي؟ وما درجة القوة في الصراع بين المحافظة والتغيير؟

الإجابة تتمثل في أن سلاح "النزعة النقدية" هو القاعدة الذهبية هنا وكل شيء سيصبح ممكنا على أساس من الإرادة الواعية.

وان الذين يدافعون عن المحافظة، أي عن الامر الواقع، يدافعون عن "الثبات" ولكن هذا الثبات لم يعد كما كان أي الجمود، لقد أصبح يفهم الان باعتباره قائما على قاعدة السير الى الامام في العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، كما على انه عملية بنيوية، وان ايمانه بالشمولية والبنيوية ومعطياته غير محددة حول صيرورة عالم الظواهر الذي يسمح بتعددية ولكن في إطار نزعة توحيدية ثابتة في آن معاً: تاريخية ومناهضة للتاريخية، وديناميكية ومعادية لها، ثورية ومعادية للثورية. ومن الواضح الان ان أسلوبي "المحافظة والتغيير" يصبان في نفس الاتجاه.

فمثلاً: إذا كان الغرب ما زال يعتبر نفسه أنه العالم بل ومركز العالم في آن معاً واحد فإنه يفرض ايديولوجيته السائدة فرضاً بوصفها أيديولوجية كل المجتمعات، وعلى هذا النحو تقع ازمة الغرب في قلب الأيديولوجية السائدة المعاصرة أي الفكر السلبي الخاص بالنزعة البنيوية-الوظيفية الجديدة ويترتب على ذلك أن الأيديولوجية السائدة لم تعد عالمية ولا اعطاءها الصفة العالمية والمثال على ذلك العالم الإسلامي في قلبه العالم العربي فالشعوب فيه تشتغل بالموروث عن الاسلاف وبالجديد في الوقت واحد.

أما التراث الغربي يحتوي على نزعة عقلانية نقدية للروح العلمية الحديثة وعلى المثل الذي سبقت أن رفعت الثورات لواءها، وهذه هي نقطة الاصال أو الالتقاء بين الغرب الحضاري، والشرق الحضاري، وهنا يمكن الوعد بعلاقة جدلية أصلية بين القطاعين.

3) إن التحليل الجديد العصري في الحركات الفكر والثقافة المؤثرة في مجتمعات الشرق الحضاري والقارات الثلاث جعلنا أمام الصورة التالية بشكل اتجاهي:

  • إن الجو الذي تلتقي في اطاره جميع مدارس الفكر والعمل هو جو الحركة والصيرورة (الايمان بالمستقبل التاريخي) مثل الانفجار السكاني.

  • أن أنصار الاتجاهيين الرئيسين: (الأصولية، والتحديث الوطني) يتفقان على ضرورة التمسك بسلم معياري من القيم الفلسفية والأخلاقية فكلاهما يرفض موقف الانغلاق على الذات الفردية، والتنكر للرابطة الجماعية، (والوطن، الاسرة والثقافة الوطنية، والدين). مما يفرض على روادهما الاتجاه نحو صياغة المستقبل من خلال مشروع كبير، وطنيا ام حضاريا حسب الظروف والقدرات.

إذن البؤرة الحية المتأججة بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان القادرة على الابداع والتجديد والتغيير ونؤكد ثانية على انها تتحرك في اتجاه التلاقي الموضوعي مع قطاعات واسعة من القطاع الاشتراكي في المجتمعات المعاصرة.

الفصل الثامن: في التساؤل الفلسفي والإيماني


أولاً: ان تراجع مكانة الدين في المجتمعات الصناعية المتقدمة وزوال دور الفلسفة في حياة البشرية في هذه المجتمعات كانا يمثلان جزءاً هاماً من الرؤية المستقبلية النابعة من أوروبا الصناعية وذلك تحت تأثير الهائل للاكتشافات العلمية والتكنولوجية التي حاصرت مجال الايمان وكادت تقضي على الفلسفة الأولى أي ما بعد الطبيعة.

وكان العكس في مجال الشرق الحضاري ففيها يحتل الدين مكانة هامة ذات جذور تاريخية. وقد اقتضى هذا الامر أن يتجه العدي من قادة السياسة والفكر والسلاح والاقتصاد الى الفلسفة الوضعية التي قال بها اوغست كونت والتي امتزجت فيها الفلسفة العلمية والعقلانية من ناحية والابتعاد عن الدين والتنكر له من ناحية أخرى تحت شعار المعاصرة والعالمية.

ثانياً: لقد رأينا كيف اثرت الازمة الاقتصادية العالمية في الفكر والثقافة والأيديولوجية المهيمنة، وهي العملية التي أدت الى ظهور اتجاهي الوضعية الجديدة ثم جاءت على أساسها البنيوية والوظيفية.

فضلا عن التعمق الفلسفة الفردية الذاتية الى بعث الفلسفة الوجودية وهي التي مزجت بين فلسفة الظاهرة القائمة على أساس الوضعية الجديدة، وبين الذاتية الفردية المتفشية بشكل لم يسبق له مثيل في المجتمعات الرأسمالية بعد إعادة بنائها.

ثالثاً:

فالإشكال الجدلي يعيد التساؤلات المركزية الجذرية التكوينية لحياة الإنسانية الى مكانة الصدارة بعد طول غياب. فرجال الاعمال آثروا في الغرب التركيز على حركة الاحياء الإسلامي الحضاري والسياسي في السنوات الأخيرة وهو امر واقع على تنوع مدارسه واتجاهاته. 

وهكذا نشهد صحوة عالمية هائلة للأديان في الغرب والشرق والقارات الثلاث التي بدأت (الصحوة) تؤثر بشكل ملحوظ على الجيل الجديد

الفصل التاسع: السلطة الاجتماعية


إن مركز السلطة الاجتماعية يعبر عن المصالح الرئيسة للقوى الاجتماعية ذات الوزن الأكبر في المجتمع ساء كانت محصورة في طبقة اجتماعية محددة او في قطاع منها. وإن العامل العسكري ضمن ظاهرة السلطة الاجتماعية لم يعد ينظر اليه اليوم من مناظير طوباوية، بل واقعية لذا يحتل الجيش مكانة مركزية ضمن جهاز العنف العقلاني الذي يكون طبيعة السلطة ودولتها. ويعود التحول الذي طرأ على السلطة الاجتماعية الى الازمة الاقتصادية العالمية الكبرى، وهذا التحول في طبيعة السلطة ذاتها وفي آداتها أي الدولة جعل من هذه الأداة مركز السلطة التقرير على جميع المستويات الحياة الاجتماعية.

وأصبح مفهوم الشعب يتأرجح بين سلم الطبقات الاجتماعية، فالمجتمع يتكون من طبقات متصارعة ويستهدف الصراع في الأساس السيطرة او استيلاء على الدولة بوصفها مركز السلطة الاجتماعية وتطورها بشكل متكامل ومطلق لا يسمح للقوى الاجتماعية بالمشاركة بصورة مؤثرة في القرار السياسي والإفادة من ثماره


الفصل العاشر: ثقل الجيو- سياسية


أولاً: مر نظام التوازن العام بين الدولتين العظمتين بعدة مراحل تمثل كل منها مستوى مختلفا من حيث الشكل التناقض ودرجة حدوثه دون المساس بالجوهر.

  • مرحلة تحديد مناطق النفوذ: في الدائرة المركزية على وجه التخصيص حيث كان أساس التعامل بين الدولتين العظميتين يتمثل في القوة الميدانية لكل منهما. وهما المنطقتان اللتان تقاطع فيهما دوائر التأثير والنفوذ الثلاث (أمريكا، الاتحاد السوفيتي، الصين).

  • مرحلة الحرب الباردة: اتسمت باندلاع موجة من الثورات وحروب التحرير والانقلابات السياسية والعسكرية، حيث أنه كل من المعسكرين قام بمد نفوذه التنظيمي والحربي، خاصة معسكر حلف الاطلنطي الى خارج الدائرة المركزية.

  •  مرحلة التعايش السلمي: التي بدأت بعد أن زال خطر التفوق التكنولوجي والاستراتيجي الأمريكي. وشهدت هذه المرحلة عودة الى جو التشاور وقبول فكرة التعايش التضامني العالميين على أساس التعاون الاستراتيجي، النسبي. وشهدت حلولاً سريعة وواقعية لعدد من الازمات الكبرى (أزمة الصواريخ الكوبية). وأعطت هذه المرحلة درساً يُعنى بأن تحرش أي معسكر من المعسكرين بالأوضاع الداخلية في المعسكر الآخر يعني الاخلال بتوازن القوى المستقر.

  • مرحلة الوفاق: هي مرحلة واقعية السياسية الدولية بمعنى الكلمة، فتحول البترول من سلعة الى سلاح.

  • مرحلة الحرب الباردة الجديدة: (1981) بدأت بتولي الرئيس ريجان رئاسة الولايات المتحدة، هدف هذه المرحلة هو استعمال تقدم الولايات الهائل في مجال الاقتصاد والتكنولوجيا لإعادة بناء التفوق الحزبي- الاستراتيجي الأمريكي من جديد.

ثانياً: إن دراسة المتغيرات التي طرأت على مختلف المناطق الجيو-سياسية، وعلى قطاعات المختلفة في العالم المعاصر، ابتداء من الجدلية الاجتماعية في الدائرة الداخلية، أي تفاعل القوى داخل الدولة الوطن، وداخل المنطقة الجيو-ثقافة، والجيو-سياسية وعلى أساس تأثير هذه الوحدات السياسية –الاجتماعية المختلفة بتطور علاقات القوى بين الدولتين العظميتين.

  • تطور قطاع الاستعمار في العالم الغربي: من التقليدي الى الاستعمار المهيمن يُعد من أهم معالم النظام القائم حالياً في العالم، فتراكم الهائل للأسلحة في أهم الدول الصناعية المنتصرة، وخاصة الولايات المتحدة أدى الى نشأة المؤسسة الصناعية 

العسكرية. فأصبح هذا القطاع هو المسيطر الفعلي على جهاز الحكم في الولايات ثم حلفائها في حلف الاطلنطي.

فالمجموعة الصناعية العسكرية هي التي دفعت بالثورة الصناعية الى مرحلة الثانية (مرحلة الثورة العلمية والتكنولوجية) وكانت المؤسسة الصناعية العسكرية أكثر المؤسسات الاجتماعية إفادة من الثورة العلمية والتكنولوجية.

وقد صاحب هذه المرحلة انتشار الهيمنة الامبريالية، وتقدما هائلا في الأسلحة الاستراتيجية التقليدية والنووية، مما اضطر الاتحاد السوفيتي الى الدخول في سباق التسلح وقد زاد من خطورة الامر أن الولايات المتحدة من الناحية الجيو-سياسية تمثل منطقة متصلة من الناحيتين السكانية والجغرافية بين المحيطين الرئيسين الأطلنطي والهادئ، وعلى الضفة الأخرى يوجد أهم مركزين للتركيز السكاني والانتاجي في العالم فهذه المركزية جاءت لتضاعف من تأثير عوامل التقدم والهيمنة.

  • تطور قطاع الاشتراكية في العالم: خرج الاتحاد السوفيتي منتصراً من الحرب العالمية الثانية من الناحيتين الحربية والسياسية، فعمد الى تأمين حدوده الغربية منعا لتكرار غزوة حربية جديدة بقيادة الحلف الأطلنطي. ومن هنا كان تكوين الكتلة الاشتراكية في أوروبا الوسطى والشرقية بقيادة الأحزاب الشيوعية الموالية للاتحاد، وبدأ يعيد بناء اقتصاده الصناعي التقليدي والمتقدم معاً ويجدد تسليح وتنظيم جيوشه، ثم بدأ يسعي الى اللحاق بالتحدي الأمريكي في مجالي التسلح النووي وغزو الفضاء.

أما بالنسبة للصين وبعد تطورها وانتصارها في حرب التحرير الكبرى وإقامة جمهورية الصين الشعبية استطاعت صورة الصين الوطنية بقيادة الحزب الشيوعي أن تقتحم الصعاب وأن تقيم مجتمعاً متماسكاً تقدم بسرعة هائلة في القطاعات الى أن جاءت الثورة الثقافية وخاصة في مرحلتها الثانية لتفتك بالطلائع السياسية والثقافية باسم معاداة البيروقراطية.

مناطق التأثير الجديدة في القارات الثلاث: تحتل اليابان مكانة الصدارة في سلم التجارب الرائدة من حيث التفرد بالنمط الذي قدمته وكذلك من حيث تأثيرها على الاقتصاد العالمي المعاصر.

إن دراسة خصوصية اليابان موضوع واسع في حد ذاته ذلك أن المجتمع الياباني المتركز في الجزر الثلاث الرئيسة وحولها عشرات الجزر الأخرى ظل بمنأى عن التوغل الأجنبي حيث استطاع هذا المجتمع المغلق أن يتغلب على الطبيعة الشاقة التي تواجد فيها بفضل صياغة نمطه المتفرد من الوحدة التكنولوجية.

من هنا استطاعت اليابان أن تنفتح على كافة معطيات العالم الحديث، وكذلك التقدم في كافة المجالات الإنتاجية الصناعية والابتكار التكنولوجي وتقنية فتح الأسواق التجارية الخارجية مع وضع فكرة تراكم الأرباح في المقام الثانوي، بينما احتل توظيف الأرباح في البحث العلمي والتطبيقي بعيد المدى المقام الأول.

فاستطاعت اليابان بهذه الروح أن تتعدى مأساة حربها بالقنابل الذرية واحراق عاصمتها طوكيو على آخرها بالقنابل في الحرب العالمية. لذلك ركزت على تحقيق شروعها الوطني الكبير، أي ان تكون أكثر الدول الصناعية والتكنولوجية فاعلية في الإنجاز والقدرة على الابتكار والابداع الذاتي.

  • وفي نفس المرحلة ولكن في الطرف الآخر أي في الدائرة الثانية للشرق الحضاري (العالم العربي) وهو قلب الدائرة الحضارية الثقافية الإسلامية في آسيا وأفريقيا. بدأت تتجمع معاني تكوين مركز جديد للقوة والتأثير في العالم، فتفجرت العديد من الثورات الوطنية التحريرية في العديد من الدول (مصر، سوريا، المغرب) ثم الحرب التحريرية البطولية التي أدت الى انتصار الجزائر والمقاومة الفلسطينية، ثم حركة الوحدة العربية.

هذه المسيرة الطويلة والشاقة التي بلغت ذروتها رغم التناقضات والاخطاء الجسيمة التي كادت تستقطب القوة العربية حول قيادة مصر في حلف مع سوريا ونفوذ استعمال السلاح البترول في اتجاه تحقيق نظام اقتصادي عالمي جديد.

لذلك تلعب الجيو-سياسة دوراً هائلاً بشكل مباشر فالعالم العربي هو أقرب قطاعات الشرق الحضاري الى خط النار حول البحر الأبيض المتوسط وعلى ضفته الشمالية قواعد حلف الأطلنطي الاستراتيجية.

  • ونتدرج في التحليل الى ظاهرة هامة للتأليف بين عدد كبير من الدول الوسطى والصغيرة في القارات الثلاث ألا وهي ظاهرة " مجموعة دول عدم الانحياز".

  • وهناك عدة دول بدأت تلعب دور الوساطة السياسية بينما تقدمت في مجال التنمية الاقتصادية بشكل ملحوظ جعل منها مراكز قوى ممكنة في مستوى وسيط يواكب إمكان تشكل نظام عالمي حول مراكز ثلاثة في مستقبل متوسط المدى. 


الخاتمة:


كل ما قدمه أنور عبد الملك كان يستعرض فيه العالم الغربي والعربي من كل الجهات والمفاهيم التي طرأت عليه فقدم العالمين كنموذجين يستعرض فيهما أبرز التغييرات الحاصلة منذ الحرب العالمية مروراً بالصيرورة التاريخية لكل منهما وصولاً الى النظرة التناقضية بينهما وتبني مفهوم السيطرة، والقوة، والتأثير من موارد بشرية، عسكرية اقتصادية، اجتماعية في إطار ينطلق ويخدم مستوى من التحرر والرقي، والتقدم الذي يصبو الى النهضة غربية أو استشراقيه التي نقادها أنور عبد الملك. 

لتوضيح هذه الرؤية كان د. عبد الملك يستشرق آفاق المستقبل بالعودة إلى ماضي العالم، مشيراً إلى أن "العالم لم يعرف نظاماً عالمياً قبل القرن السابع عشر، بل كان العالم يتكون من حوالي أربع مجموعات منعزلة، يربط فيها رابط تجاري هو طريق التحرير، وكان الوطن العربي والإسلامي طرفاً فاعلاً في هذا النمط التجاري الدولي وكما كان يقول: "اليوم يعاد تشكيل علاقات دول طريق التحرير من جديد، على خط البترول وموارد الطاقة، وعلى الرغم من أن المنطقة العربية هي جزء منه، إلا أنها مغيبة بسبب الهيمنة الأمريكية عليها"..

وإيماناً بفكرة التوجه شرقاً كان د. عبد الملك يؤكد أنه إذا كانت عملية جعل الغرب مركزا للعالم عملية لها تاريخ، أي لها بداية، وبالتالي يمكن أن تكون هناك بدايات أخرى، وعلى هذا فإنه كان يرى أن مركز الثقل العالمي ينتقل من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي على بروز قوى جديدة كالصين، تجعلنا نشكك في مقولة إن أمريكا هي العالم وأنها تمتلك كل أوراق الحل. 

استند بذلك وهو يدعو إلى التوجه شرقاً، إلى المشتركات القائمة بيننا في المنطقة العربية ودول الشرق، مقارناً في ذات الوقت بين النموذج الغربي ونظيره الشرقي، فجوهر حضارات الشرق يعتمد على الروح الجماعية بدلاً من الفردانية، وفي هذا نقد لمفكري العلمانية الأوروبية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، حيث كانوا يمنحون الأولوية للفرد باعتباره سيد أو مالك الكون، وهي النظرة التي أدت كما يرى عبدالملك إلى استيلاء الرأسمالية الغربية على معظم بلاد العالم حتى بداية القرن العشرين، في حين أن الروح الجماعية تعطي أولوية لمعاني الحضارة والدين والثقافة والأمة والقومية والوطن والأسرة في مواجهة ابتزاز أولوية الفرد. 

وفي سبيل توضيح رؤاه الفكرية دعا د. عبد الملك إلى تثوير الإسلام الاجتماعي كأساس لمشروع جديد للتحديث، يتجاوز المركزية الأوروبية والأمريكية، نظراً لأن كل بلد له طريقته الخاصة في الانتقال إلى الحداثة، من هنا كان يرفض محاولات الإضرار بالذاكرة الوطنية، وخصوصاً التقليل من شأن تجارب التحديث في الوطن العربي، وظل يدعو إلى تحالفات قوية بين بلدان الشرق، وتجلى ذلك في أهم كتبه "ريح الشرق" و"نهضة مصر" و"تغيير العالم".

عن الكاتب

الناشر

التعليقات


اتصل بنا

من أجل البقاء على تواصل دائم معنا ، قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك موقعنا ليصلك كل جديدً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

بيت اللسانيات