إلى الطاعنين في الحلـم عندما نحيا النشيد ننتصر على السقوط خلال النشيد لا نشيخ أبدا (...) أن تسمع نشيدى معناه أن تنفتح على شساعة الوعد الذي يحمله
_ يوجين غييفيك _
تنويع أول
صباحا. ككلِ يومٍ يدفن قامتَهُ المُقوَّسةَ في كرسي المقهى المُتهالك، يغوصُ فيه وهو يمد ساقيه على طولهما، يأتيه النادلُ ككلِ يومٍ بقهوتهِ المضغوطةِ المُرَّةِ دون أن يطلبها، وككلِ يومٍ يُخرج أوراقه وقلمه مُتأهبا أنْ يَخُطَّ.. لكنه صباحٌ قائضٌ يُنبئُ بظهيرةٍ صَاهِدَةٍ.. مروحةُ السقفِ لم تنجح أن تُبدِّدَ ضيقهُ الكابس.. صباحٌ يُشعره بفُتورٍ.. يُربكه. يتصفحُ في غيابٍ صفحات الجريدة بين يديه وفاءً لطقسِ الرتابة.. يطويها إذْ يرتد إلى نفسه.. يمسحُ صالة المقهى بنظرةٍ شاملةٍ، يُصعد بصرَه في الأنحاءِ يبحثُ عن إيحاءٍ ما.. تَعوَّد أن يرى الأرقام في كل شيء.. في واجهاتِ المحلاَّتِ، وجوهِ العابرين، أو في ورقةٍ مكتوبةٍ يَلُمُّها من الأرضِ.. لطالما استعذبَ هذه الهشاشةَ التي تَحْكُمُ تخلقَ الأرقامِ من العدم.. وتَبْرُقُ في رأسه فكرة .. يَبتسمُ إذْ يجولُ ظلُّها بذهنه.. ينهض.. يتجهُ إلى مذكرةِ الأيامِ المعلقة قريبا من الكونتوار.. رمقها بنظرةٍ مُسْهَبَةٍ، وجعل يَخُطُّ الأرقامَ بنظامٍ شطرنجي: 6-2-14-5-29... مرةً أخرى، والمساءُ يُرخي عتمتَهُ الفضفاضةَ، كان يُوَقِّعُ مسارَهُ إلى المقهى وهو يستحثُ الخطى بكل ما في يأسهِ من أمل.. في المقعدِ نفسهِ يدفنُ قامتَهُ، يَغرزُ بصرهُ في الشاشةِ أمامه، يُتابع إيماضها بفتورٍ وارتخاءٍ ودونما حماس، وإذْ تُطِلُّ الرشيقةُ بابتسامتها المصقولة باحترافٍ تجاري، يتسارعُ الزمنُ فجأةً.. يَنْفُرُ جسدُه.. يَنقذفُ الدمُ بعنفٍ إلى رأسه.. تَختلجُ أنفاسه.. كانت نظراتهُ متعلقةً بشفتيها، تَرشقهُ بالأرقام.. يظلُ طنينها في مسمعهِ لحظاتٍ قبْل أنْ يستعيدَ علاقتَه بما حوله.. إلى الجحيمِ أيها الحظُّ العَاهِر، مُفعمًا بالفجيعة كاد يقول هذه الكلماتِ التي عَبَرت رأسه، أنْ يصرخَ بها مِلْءَ مرارته، لكنه ظل صامتا صَمْتَهُ العَصيبَ الكامِد..
تنويع ثان
لنا رغبةٌ بهما معا، لكن ليست لنا القدرةُ على الجمع بينهما، كما هو شأنُ السلالمِ ذاتِ الانعطافةِ الدولابية المزدوجةِ لبعض قصورِ عصر النهضة هكذا خاطبَ نفسه إذْ تذكرَ زوجته التي كانت ترى دائما رغباتهِ فوق احتمال الحلم .. كانت تراهُ يلهثُ وراء وهمٍ زلقٍ يتأبى على القبض.. تراه مُراهِنا على الهباء. وطالما حاولتْ أن تثنيه عن أنْ ينخرط في لعبته القدرية الحاسمة كما كان يُسميها، لعبة وجوده التي بدونها لا معنى أن يحيا.. لا سبيل لكينونته. أحبَّ الحياة -كان يقول لها- وأنه حتى الوهم مبررٌ للوجود.. وكثيرا ما كان يُردف أنه عاشَ بالتقسيط، لكنه لا يتمنى أن يموتَ دفعة واحدة.. دونما سببٍ ظاهرٍ تُلح صورتها عليه هذا الصباح.. يحاول إبعادها دون جدوى.. لطالما كره هذا الإيغالَ في المامضى، هذا الاحتجازَ المُبهظَ في الكان، لكن رغما عنه، يسطعُ وجهها في الذاكرة .. يَفورُ على صفحة الوعي.. يَتلامحُ مَجلوًا بلا شوائب.. يطفو فوق سُمْكِ التناسي.. زوجته التي فَردت قبل الفجر الغطاءَ على جسده تُدفئه، رحلتْ.. رحلت هكذا ببساطة.. ودونَ وداعٍ.. إلى الغيابِ اللاعودةَ منه.. تاركةً مفتاح البيت فوق عضادةِ البابِ، وفراغا فسيحا بحجمِ مرارته.. يُحرٍّرُ تنهيدةً ثم يمضي في مسالكِ الذكرى التي تَفتحُ للجرحِ معابرَ الألم.. كَاسِفَ البالِ ينزلقُ إلى فضائِهِ البعيدِ.. وقد غامت عيناه في حزنٍ شفيف.. وحدها أرقامُ الرشيقةٍ على التلفازٍ تُعيدهُ إليه.. ليستعيدَ علاقتَهُ بما حوله.. سمعَ الأرقامَ.. أمالَ رأسه ميلاً خفيفا، وقفلَ عائدا إلى بيته يدرع الشوارع التي نفضتْ عنها آخرَ الخُطى مُثخنا بالهزيمة، دونما استياءٍ -أو على الأقل بهذا أرادَ أن يُقْنِعَ نفسه- هو لا يذكرُ من أخبرهُ أنَّ التراجيديا التي تحدثُ من تكرارِ التاريخِ مرةً، تصبح كوميديا إذا تكررت مرات، أو أين قرأ العبارةَ إنْ كان قرأها، كل ما يذكره هو أنه مِنْ يومها قررَ أن يعيشَ انكساراته بجلالِهِ الكامل..
- شكرا إيف بنفوا على الإلماح الجميل.
تنويع ثالث
مِنْ خلفِ زجاجِ واجهةِ المقهى العريضةِ، تتراءى له شمسُ هذا الصباحِ وافرةً وفسيحةً، تُشيع في المكانِ طزاجةَ الألوانِ، وتفعمه بغمرٍ من خِفَّةٍ لذيذةٍ. وفيما هو يرتشفُ قهوتَه..3....7..24... في خطفةٍ تُشرقُ في ذهنهِ كالنبوءة.. يفتحُ عينيه على اتساعهما، وباستنفارٍ يتحسسُ جيوبَه.. يلطمُ أطرافه باحثا عن قلم.. عن ورقة.. لكنْ، وحدها قهوته السوداء كانت هناك.. نَاسَ برأسهِ مُقلبا بصرَهُ في الأنْحاء.. ودونما استئذانٍ طَاوَلَ يدَه، تَلقَّفَ طرفَ جريدةٍ بين يدي شخصٍ يبدو طَارِئا على المكان، يجلسُ وَشيكًا منه إلى طاولةٍ على يسارهِ.. حَشَرَ يدَه في جيبِ سترته الجلديةِ الحائلةِ.. تناولَ عودَ ثقابٍ.. غَمَسَهُ في دَواةِ القهوةِ المُرَّة، وجَعَلَ يَخُطُّ.. أَحسَّ بعد احتجازِ الأرقامِ داخل الحيزِ الورقي، على مساحةٍ مِنْ رُكْنِ التهاني، بسكينةٍ سماويةٍ.. بحالةٍ من الطَّفْوِ في الهواءِ. يُحِسُّ هذا الصباح أنَّهُ سيقطفُ فاكهةَ الفرح.. مُجتاحًا بانفعالٍ كَشَّافٍ، برؤى عرافيةٍ يُحِسُّها إفْضَاءَةَ القدرِ إليهِ، تخلقت الأرقامُ في ذهنهِ من العدم.. نُطفاً مُفعمةً بالوعد. جاءته هكذا.. بسيطةً.. دونَ معادلاتٍ جبرية.. في سذاجةٍ حكيمة. أَحَسَّهَا أتتهُ من الماوراء.. أنها انقذفت إليهِ من ثقبٍ دُودِيٍّ كَوْنِيٍّ، في لغزيةٍ مُلتبسةٍ ستحسِمُ مع خيباتهِ وفصولِ الهَبَاء.. اليوم - قال بحسم- لا مُتَّسَعَ للاحتمال.. مساءً بدا له فضاءُ صالةِ المقهى مكتظا بأشعةٍ خفيفةٍ.. بضوءٍ وَدودٍ.. قليلاً ثُمَّ تَظهرُ الرشيقةُ على التلفاز.. تراءت لهُ اليومَ جميلةً، بتنورتها الأورغنزة النبيذية، وقميصها السَّاتان ذي المربعاتِ الاسكتلندية الذي يُورِقُ من خلفهِ صدرٌ لَدِنٌ ناعمٌ كقطعةِ المخمل.. اليومَ يحس بأنوثتها تفيضُ إلى الخارجِ بقوةٍ، يحس بالشَّبَقِ يُطِلُّ من عينيه - هي السعادةُ اذن تَفْعَلُ فِعْلَها في الأشخاصِ والأشياءِ والحواس- استكانت نظرتُه على جسدها، على تنورتها في استغراقٍ قَبْلَ أن يعودَ إلى نفسه، وهي تَنْبُرُ بالأرقام.. لَمْ تكن أرقامه.. أجْفَلَ.. انتفضَ قلبهُ في ارتعاشٍ موحشٍ.. تقسو فجأةً تقاطيعه.. تختفي ابتسامته خلفَ جهمة طارئة.. وفجأةً تتفجر منه ضحكةٌ مفعمةٌ بألمٍ رهيب.. يلعنُ عَجْزَه، ويَمْخُطُ على أرقامهِ الخاسرة.. يَسْندُ انعطابه الذاتي، ويمضي إلى وحدته.. ما كانت نبوءةً، ولكنْ شُبِّهَ له..
تنويع رابع
هباتُ بردٍ صباحي تَنْفُذُ إلى عظامه تُرْعِشُه، حيثُ لِقَرِّ مارس القسوة الأخيرة.. نَشِيشُ رذاذٍ يرسم الجهامةَ على وجوهِ العابرين.. يتساءل لماذا يُعانده القدر.. لماذا يضرم فيه شهوةَ الفوزِ بربحٍ صغيرٍ ذاتَ مرةٍ أولى وأخيرةٍ ثم يغيب.. ترتد إليه ذكرى فوزه القديم غَضَّةً طازجة، تمنى حينها لو يُحَنِّط حظه.. لو ينقعه في فرمولِ قنينةٍ مخبرية، لو يمنعه من التفسخ، لو يقبض على ديمومته العليا، لو يُصَيِّره أبديا، حظا فرموليا لا يذوي.. بعد فوزه الصغير ذاك طالما هدهدته الأماني بفوزٍ أكبر.. بأن يرى نفسه داخل صالة كافيتيريا مُتْرَفة، بواجهاتٍ زجاجية بانورامية، تُشْرفُ على مضمارِ خيول.. وهو يتهادى، ببذلته السموكين.. وربطته الفراشة.. ووردته الحمراء في عروة السترة، بين نساء حسناوات بقبعاتٍ عريضةِ الحوافِ، ورجالٍ بعكاكيز معدنية المقبض.. كان طوال دقائق يفكر ويَخُطُّ بثباتٍ على الرقعةِ الورقيةِ الصغيرةِ أمامه في استغراقٍ لذيذ.. وفي لحظةٍ يَعْقِدُ ذراعيهِ فوق صدرهِ، ثم يتأمل خطوطه بفرح..
لطالما أُغرمَ بخط هذه التعرجاتِ المتاهيةِ دون سببٍ واضح.. أَتُراها انشعاباتُ الذاكرةِ الملتوية.. أم هي مسالكُ حظه الذي لا يأتي؟ مساءً وهو يَسمع الأرقامَ تسيلُ من الشاشةِ صوتا مشروخا لِتُوَقِّعَ يوما آخرَ من أيامـه الهَبَاء، قرر أن يُخرج رسمه الصباحي من جيبه حيث كان ما يزال هناك.. يفرد الورقةَ المطوية.. يتأملُ تعرجاتها وابتسامةٌ تتسعُ على شفتيه.. ومن بعيدٍ يَصِلُهُ صوتُ إديث بياف عَبْرَ المذياعِ عميقا متماوجا كنحيب:
Non! Rien de rien
Non! Je ne regrette rien
Ni le bien qu´on m´a fait
Ni le mal tout ça m´est bien égal ..
عبد الله حدادي/ المغرب
تعليق