بيت اللسانيات بيت اللسانيات

آخر الأخبار[cards]

جاري التحميل ...

تعليق

النَّظْمُ الإِلَهِيُّ وَبِنَاءُ الذَّائِقَةِ: القُرْآنُ الكَرِيمُ مِعْيَارًا لِتَهْذِيبِ الحِسِّ البَيَانِيِّ وَتَأْصِيلِ فَصَاحَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ


 

المُلَخَّصُ (Abstract)

​يَكْشِفُ هَذَا المَقَالُ التَّأْثِيرَ الجَذْرِيَّ لِلْقُرْآنِ الكَرِيمِ فِي بِنَاءِ النَّظَرِيَّةِ البَلَاغِيَّةِ العَرَبِيَّةِ وَصَقْلِ المَلَكَاتِ اللُّغَوِيَّةِ. قَبْلَ نُزُولِ الوَحْيِ، كَانَتِ العَرَبِيَّةُ تَعْتَمِدُ عَلَى "السَّلِيقَةِ الفِطْرِيَّةِ"، لَكِنَّهَا كَانَتْ تَفْتَقِرُ إِلَى مِيزَانٍ نَقْدِيٍّ مُنَظَّمٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ دَرَجَاتِ البَيَانِ. لَقَدْ أَقَامَ القُرْآنُ مِعْيَاراً جَدِيداً، لَيْسَ فَنِّياً وَحَسْبُ، بَلْ جَمَالِيّاً وَأَخْلَاقِيّاً، يَقُومُ عَلَى دِقَّةِ النَّظْمِ، وَالرَّبْطِ بَيْنَ السَّيَاقِ وَالمَعْنَى، وَتَحْوِيلِ الفِكَرِ المُجَرَّدَةِ إِلَى "صُوَرٍ مَرْئِيَّةٍ" مُؤَثِّرَةٍ. وَيُظْهِرُ المَقَالُ أَنَّ جُهُودَ أَعْلَامِ البَلَاغَةِ – كَنَظَرِيَّةِ النَّظْمِ عِنْدَ الجُرْجَانِيِّ – هِيَ بِالتَّحْلِيلِ الجَوْهَرِيِّ اِسْتِخْرَاجٌ لِأَسْرَارِ الإِعْجَازِ القُرْآنِيِّ. وَيَخْتَتِمُ بِالتَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ العَوْدَةَ إِلَى مَقَايِيسِ الوَحْيِ أَسَاسٌ لِتَحْصِينِ الخِطَابِ العَرَبِيِّ المُعَاصِرِ مِنْ الِانْحِدَارِ وَضَمَانِ رَصَانَتِهِ وَنُفُوذِهِ.

الكَلِمَاتُ المِفْتَاحِيَّةُ (Keywords)

البَلَاغَةُ القُرْآنِيَّةُ، النَّظْمُ البَيَانِيُّ، الذَّوْقُ اللُّغَوِيُّ، الإِعْجَازُ، الفَصَاحَةُ، الأَدَبُ العَرَبِيُّ، النَّقْدُ الأَدَبِيُّ.



___________

١. تَمْهِيدٌ: القُرْآنُ وَمَكَانَتُهُ التَّأْسِيسِيَّةُ فِي البَيَانِ

​لَمْ يَقْتَصِرْ أَثَرُ الوَحْيِ الإِلَهِيِّ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ عَلَى الشِّقِّ التَّشْرِيعِيِّ وَالهِدَائِيِّ، بَلْ تَجَاوَزَهُ إِلَى تَأْسِيسِ البَيَانِ العَرَبِيِّ تَأْسِيساً لَمْ تَشْهَدْ لَهُ العَرَبِيَّةُ مِنْ قَبْلُ نَظِيراً. فَالقُرْآنُ هُوَ "النَّصُّ العَالِي" وَأَرْفَعُ طَبَقَاتِ الكَلَامِ، اِضْطَلَعَ بِدَوْرِ المَعْمَلِ التَّرْبَوِيِّ الَّذِي رَبَّى المَلَكَاتِ اللُّغَوِيَّةَ وَصَقَلَ أَذْوَاقَ المُتَلَقِّينَ. وَتَنْبُعُ أَهَمِّيَّةُ دِرَاسَةِ هَذَا الأَثَرِ مِنْ كَوْنِهِ يُقِيمُ مِيزَاناً جَمَالِيّاً وَأَخْلَاقِيّاً لِكُلِّ كَلَامٍ بَعْدَهُ.


٢. النَّقْلَةُ المِعْيَارِيَّةُ: مِنْ سَلِيقَةِ الجَاهِلِيَّةِ إِلَى مِيزَانِ الوَحْيِ

​عَاشَتِ القَبَائِلُ العَرَبِيَّةُ قَبْلَ الإِسْلَامِ فِي عَالَمٍ تَتَصَدَّرُ فِيهِ البَلَاغَةُ مَوَاقِعَ الرِّيَادَةِ، فَكَانَتِ اللُّغَةُ عِبَارَةً عَنْ "سَلِيقَةٍ بِلَا مِعْيَارٍ"؛ حَيْثُ كَانَ النَّقْدُ يَقُومُ عَلَى الِانْفِعَالِ اللَّحْظِيِّ وَالذَّوْقِ العَامِّ، دُونَ الِاسْتِنَادِ إِلَى نِظَامٍ نَقْدِيٍّ ثَابِتٍ يَمِيزُ بَيْنَ المَتَقَارِبِ وَالمُتَبَايِنِ.

​مَعَ نُزُولِ القُرْآنِ، وُلِدَ "أَسْبَقُ مِعْيَارٍ يَدْخُلُ الوِجْدَانَ العَرَبِيَّ" قَبْلَ تَبَلْوُرِ عُلُومِ البَلَاغَةِ بِقُرُونٍ. لَمْ يَأْتِ الوَحْيُ لِيُنَافِسَ الشِّعْرَ، بَلْ لِيُقِيمَ "مِيزَانَ الصِّدْقِ الفَنِّيِّ" الَّذِي لَا تَقُومُ الكَلِمَةُ بِدُونِهِ، حَتَّى شَهِدَ خُصُومُ الوَحْيِ أَنْفُسُهُمْ بِتَفَرُّدِهِ وَسُمُوِّهِ.

​تَجَلَّى أَثَرُ الوَحْيِ فِي تَرْسِيخِ مَبَادِئَ جَدِيدَةٍ لِلْبَيَانِ:

  • حُكْمَةُ التَّرْتِيبِ وَجَمَالُ النَّظْمِ: لَمْ يَأْتِ القُرْآنُ بِجَمَالِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، بَلْ بِتَرَابُطِ المَعَانِي وَاِنْسِجَامِ الجُمَلِ وَحِكْمَةِ التَّرْتِيبِ.
  • دِقَّةُ الاِخْتِيَارِ وَالاِقْتِصَادُ فِي العِبَارَةِ: حَيْثُ لَا يُمْكِنُ اِسْتِبْدَالُ لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ أَنْ تَخْتَلَّ البِنْيَةُ، مَعَ اِخْتِصَارِ المَعْنَى العَظِيمِ فِي لَفْظٍ مُوجَزٍ.
  • الرَّبْطُ البَيَانِيُّ: تَبْنِيَةُ الأَلْفَاظِ عَلَى مُقْتَضَى الحَالِ وَمُلَائَمَةِ السَّيَاقِ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ السُّهُولَةِ أَوِ الشُّيُوعِ.

٣. القُرْآنُ وَنَظَرِيَّةُ البَلَاغَةِ: الجُرْجَانِيُّ نَمُوذَجاً

​عَدَّ الدَّارِسُونَ الوَحْيَ أَصْلاً فِكْرِيّاً وَعِلْمِيّاً لِجَمِيعِ عُلُومِ اللُّغَةِ. فَقَدْ جَعَلَ الجَاحِظُ الفَصَاحَةَ اِنْسِجَامَ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى مَعَ مُلَاءَمَةِ الطَّبْعِ، وَقَرَّرَ أَنَّ فصَاحَةَ القُرْآنِ هِيَ الَّتِي دَلَّتِ العَرَبَ عَلَى مَوَاضِعِ القُوَّةِ وَالضَّعْفِ فِي أَسَالِيبِهِمْ.

​أَمَّا عَبْدُ القَاهِرِ الجُرْجَانِيُّ، مُؤَسِّسُ "نَظَرِيَّةِ النَّظْمِ" فِي القَرْنِ الخَامِسِ الهِجْرِيِّ، فَقَدْ كَانَ جَوْهَرُ مَشْرُوعِهِ مُنْصَبًّا عَلَى كَشْفِ "دَقَائِقِ الإِعْجَازِ" وَأَسْرَارِ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ. إِذْ بَيَّنَ الجُرْجَانِيُّ أَنَّ الأَلْفَاظَ لَا قِيمَةَ لَهَا مُسْتَقِلَّةً عَنِ الرَّوَابِطِ الَّتِي تَشُدُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، مُؤَسِّسًا لِأَصْلٍ عَجِيبٍ فِي مَنْطِقِ البِنَاءِ القُرْآنِيِّ: "المَعْنَى سَابِقٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَالعِبَارَةُ خَادِمَةٌ لِلْفِكْرَةِ".


٤. تَرْبِيَةُ الذَّوْقِ الأَدَبِيِّ وَضَمَانُ نُفُوذِ الكَلِمَةِ

​يُعَلِّمُ الوَحْيُ الكَاتِبَ وَالأَدِيبَ كَيْفَ يُبْنَى النَّصُّ الَّذِي يَتَّسِمُ بِـ"صِدْقِ النُّفُوذِ" لَا "زَخْرَفَةِ التَّكَلُّفِ" وَذَلِكَ بِطَرِيقَتَيْنِ رَئِيسِيَّتَيْنِ:

أ. أَثَرُ القُرْآنِ فِي التَّصْوِيرِ وَالإِيقَاعِ

  • التَّصْوِيرُ البَيَانِيُّ: القُرْآنُ مُدَرَّسَةٌ فِي تَحْوِيلِ المَعْنَى العَقْلِيِّ إِلَى "صُورَةٍ مَرْئِيَّةٍ"، فَهُوَ لَا يَكْتَفِي بِذِكْرِ الحَالِ، بَلْ يُصَوِّرُهُ (مِثْلَ: ... فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ...)، مِمَّا يُمَكِّنُ الكَاتِبَ مِنَ البُرْهَانِ عَلَى فِكْرَتِهِ عَبْرَ تَشْيِيدِ المَشْهَدِ.
  • الإِدْرَاكُ المُوسِيقِيُّ: أَرْسَى القُرْآنُ "نَوْعاً مِنَ الاِنْسِجَامِ" فِي تَتَابُعِ المَقَاطِعِ وَتَرَاوُحِ الحَرَكَاتِ، حَتَّى صَارَ الذَّوْقُ العَرَبِيُّ يَحْكُمُ عَلَى الجُمْلَةِ بِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ حَتَّى "تَسْتَقِيمَ مُوسِيقِيّاً قَبْلَ أَنْ تَسْتَقِيمَ مَنْطِقِيّاً".

ب. مِيزَانُ الصِّدْقِ الجَمَالِيِّ

​القُرْآنُ مِيزَانٌ يُوَحِّدُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالجَمَالِ؛ فَالجَمَالُ هُوَ "صُورَةُ الحَقِيقَةِ حِينَ تَتَجَلَّى فِي اللَّفْظِ". وَهَذَا المَبْدَأُ يُعَلِّمُ الكَاتِبَ أَنَّ البَيَانَ الحَقَّ يَنْبُعُ مِنْ "صِدْقِ اللَّفْظِ" لَا مِنْ "زَخْرَفَةِ الأَلْفَاظِ فَقَطْ"، مِمَّا يَرْفَعُ الحِسَّ الجَمَالِيَّ لِيَكُونَ "مِيزَاناً أَخْلَاقِيّاً" قَبْلَ كَوْنِهِ فَنِّيّاً.



٥. الخَاتِمَةُ وَأَهَمِّيَّةُ الوَحْيِ لِلْخِطَابِ المُعَاصِرِ

​لَا يَزَالُ القُرْآنُ الكَرِيمُ أَقْوَى مُؤَثِّرٍ لُغَوِيٍّ عَرَفَهُ العَرَبُ، وَقَدْ أَنْشَأَ ذَوْقاً جَمَاعِيّاً لِلْأُمَّةِ يَشْبَهُ "القَانُونَ الخَفِيَّ الَّذِي يَضْبِطُ حِسَّ الأُمَّةِ فِي لُغَتِهَا".

​إِنَّ النَّصَّ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ مَعَايِيرِ الوَحْيِ هُوَ النَّصُّ الَّذِي يُحَقِّقُ أَعْلَى دَرَجَاتِ الِانْتِشَارِ وَالتَّأْثِيرِ، لِأَنَّهُ يَقُومُ عَلَى مَقَايِيسَ ثَلَاثَةٍ لَا تَزُولُ: الصِّدْقِ، وَالْوُضُوحِ، وَجَلَالِ العِبَارَةِ.

​لِذَا، فَإِنَّ عَلَى الخِطَابِ العَرَبِيِّ المُعَاصِرِ، فِي الإِعْلَامِ وَالأَدَبِ، أَنْ يَعُودَ إِلَى تَرْبِيَةِ الذَّوْقِ عَلَى مَنْهَجِ القُرْآنِ؛ لِأَنَّ "البَيَانَ الَّذِي لَا يُسْنَدُ إِلَى القُرْآنِ هُوَ بَيَانٌ فَقَدَ جِذْرَهُ وَفَقَدَ رُوحَهُ الَّتِي تَحْمِيهِ"، مِمَّا يَقِي اللُّغَةَ مِنْ سُقُوطِهَا فِي وَحْلِ الِابْتِذَالِ وَالتَّفَاهَةِ.

عن الكاتب

بيت اللسانيات | Bitlisaniyat

التعليقات


اتصل بنا

من أجل البقاء على تواصل دائم معنا ، قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في موقعنا ليصلك كل جديدً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

بيت اللسانيات