"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"
بكل اعتزاز وتقدير، تتشرّف أكاديمية بيت اللسانيات الدولية في تركيا – هذا المركز البحثي الذي يولي أهمية قصوى لدراسة المناهج اللسانية الحديثة وتطبيقاتها على لغتنا العربية الخالدة – بأن تتقدم بأسمى آيات التهاني وأصدق التبريكات إلى الأستاذة الدكتورة الفاضلة/ سماح محمد حيدة، بمناسبة صدور إنجازها العلمي الجديد والمتميز:
"المنوال النحوي العربي والبرنامج الأدنوي (الجملة الاسمية نموذجًا)"
إنّ هذا الإصدار ليس مجرد إضافة جديدة للمكتبة العربية، بل هو نقلة نوعية وجسر معرفي يربط أعمق الأسئلة المطروحة في التراث النحوي العربي بأحدث الإجابات التي تقدمها اللسانيات التوليدية المعاصرة، ولا سيما "البرنامج الأدنوي" (Minimalist Program) لنوام تشومسكي. وهذا المسعى الشجاع والمُتعمّق هو بالضبط ما نؤمن به في أكاديميتنا كمنهج أصيل لنهضة الدراسات اللغوية.
لقد ظلّت أكاديمية بيت اللسانيات، وهي ترى في إسطنبول نقطة التقاء للحضارات ومنبراً فاعلاً للتفكير اللساني المستنير، تعمل على تشجيع الأبحاث التي تكسر الحواجز بين القديم والجديد، وبين النحو التعليمي الصارم والتنظير اللساني العميق. وفي كتاب الدكتورة سماح حيدة، نرى تجسيداً عملياً لهذه الرؤية.
I. أصالة الفكرة وعبقرية الربط المنهجي: تحدي النحو العربي
إنّ التراث النحوي العربي، بثراء مصطلحاته وتعقيداته الإجرائية، يمثل أحد أهم القضايا التي تحتاج إلى إعادة قراءة منهجية. وكما جاء في مقدمة الكتاب، فإنّ الإشكالية المحورية تكمن في محاولة بناء الجملة النحوية، التي تظل هدفًا للبرامج الفكرية الحديثة.
لقد نجحت الدكتورة حيدة في وضع يدها على جوهر الإشكالية من خلال طرح سؤال مفصلي: كيف يمكن للنظريات اللسانية الحديثة، وبخاصة البرنامج الأدنوي، أن تقدم إطاراً تفسيرياً يضيء ويُبسط آليات البناء النحوي في الجملة العربية، وتحديداً "الجملة الاسمية"؟
هذا الربط ليس مجرد إسقاط نظري عشوائي، بل هو عملية تحليل دقيقة، تهدف إلى إيجاد المبادئ التي تجمع بين منتهج النحاة العرب في دراسة بناء الجملة الاسمية ومنهج تشومسكي، مؤسس المدرسة التوليدية التحويلية. إنّ هذا المنهج المقارن يُعدّ دليلاً على تمكّن المؤلفة من أدواتها اللسانية والنحوية على حدٍ سواء، مما يرفع من قيمة العمل ويجعله مرجعاً أساسياً في اللسانيات العربية المقارنة.
II. المنوال النحوي والبرنامج الأدنوي: تحليل عميق للتجربة
إن اختيار "البرنامج الأدنوي" ليكون الإطار النظري المقارن هو اختيار بالغ الأهمية، كونه يمثل أحدث محاولات تشومسكي لتبسيط الآليات النحوية وجعلها أكثر اتساقًا مع فرضية "الوضع الأدنى" للمَلَكَة اللغوية.
1. النحو العربي في ميزان الأدنوي:
أشار الكتاب، ببراعة، إلى أن المفاهيم التراثية مثل عوامل صحة بناء الجملة وعوامل العمل والتقديم والتأخير، هي في جوهرها ملامح تطبيقية لأسئلة تطرحها النظرية اللسانية حول الكفاءة والأداء اللغويين، وحول البنية العميقة والبنية السطحية للجملة.
- التقديم والتأخير: يمكن قراءة هذه الظاهرة من منظور الحركة النحوية (Movement) في التوليدية، وكيف أن هذا الانتقال يخدم متطلبات وظيفية أو سياقية محددة، مما يربط بشكل غير مباشر بين الإجراءات النحوية التراثية والعمليات النحوية الحديثة.
- عوامل الصحة: هذه العوامل تجد ما يوازيها في مبادئ البرنامج الأدنوي حول الاقتصاد في الاشتقاق (Economy of Derivation) والاقتصاد في التمثيل (Economy of Representation)، حيث تسعى كلتا النظريتين إلى بناء التركيب بأقل عدد ممكن من الخطوات.
2. الجملة الاسمية: نموذجاً للاقتران:
يُعدّ اختيار الجملة الاسمية (كمحور للتطبيق) اختياراً استراتيجياً، لما تحمله من تعقيدات تتعلق بالإسناد، والمبتدأ والخبر، والرتبة، وعوامل الرفع والنصب. لقد أتاحت المؤلفة لهذا المبحث الفرصة لإعادة قراءة مفهوم "تقسيم النحاة العرب للجملة إلى قسمين اسمية وفعلية"، وكيف يمكن إرجاع هذا التقسيم إلى مفهوم "نواة التركيب" (The Head of the Phrase) في النظرية الحديثة، سواء كانت النواة فعلية أو اسمية.
III. الرسالة الأكاديمية والمستقبل اللساني
إنّ رسالة هذا الكتاب، كما نراها في أكاديمية بيت اللسانيات، عميقة ومتعددة الأبعاد:
- أولاً - التجديد المنهجي: يقدّم الكتاب نموذجًا للباحث العربي الذي لا يكتفي بالوصف السطحي، بل ينطلق إلى التنظير العميق الذي يهدف إلى الكشف عن آلية العقل اللغوي في إنتاج التراكيب العربية.
- ثانياً - إحياء التراث برؤية معاصرة: يؤكد الكتاب أن التراث النحوي ليس متحفًا للمعلومات القديمة، بل هو منجم للمبادئ الكبرى التي تحتاج فقط إلى العدة المنهجية الصحيحة لاستخلاصها وصياغتها في أطر عالمية.
- ثالثاً - إثراء تعليمية العربية: إنّ فهم آليات بناء الجملة بهذه الدقة والعمق، سينعكس بلا شك على تطوير مناهج تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ولأبنائها، حيث تتحول القواعد النحوية من مجرد أحكام إعرابية إلى آليات عقلية منطقية وواضحة.
. كلمة تقدير
إنّ أكاديمية بيت اللسانيات الدولية (تركيا)، التي تسعى لمدّ جسور التواصل الأكاديمي بين الشرق والغرب، لتفخر بمثل هذه الجهود التي ترفع من شأن البحث العلمي باللغة العربية. نحن نرى في عملكم هذا دليلاً على أنّ التخصص في اللسانيات الحديثة لا يجب أن يكون على حساب إتقان التراث، بل يجب أن يكون داعمًا ومفسرًا له.
إنّ إنجازكم هذا يمثل ضوءًا ساطعًا في مسيرة البحث اللساني، ونتطلع في الأكاديمية إلى تنظيم ندوة علمية متخصصة حول "المنوال النحوي العربي والبرنامج الأدنوي" لفتح نقاش علمي معمق حول القضايا المنهجية والتطبيقية التي تناولها الكتاب بكل براعة.
في الختام، نتمنى للدكتورة سماح محمد حيدة دوام التوفيق والسداد، والمزيد من العطاء الفكري الذي يثري لغتنا ويخدم أمتنا.
مع خالص التقدير والاحترام والمودة العلمية،
إدارة أكاديمية بيت اللسانيات الدولية
إسطنبول - تركيا

جميل ،
ردحذف