مَنِ الَّذي يَتكلَّمُ في القُرآنِ؟.
أسلوب الالتفات في القراءة الحداثيَّة للقرآن
د. سعد رفعت سرحت
باحث في الأنثروبولوجيا اللغوية من العراق
هذا البحث مستل من أطروحة الدكتوراه للباحث
الملخص
قلّما تقف عند قراءة استشراقيًّة حول القرآن لا يتحدّث صاحبها عن قضية(المتكلم في القرآن الكريم) فهي من القضايا التي افتعلها المستشرقون وهم في مواجهة الآيات المباركة التي تشتمل على بلاغة الالتفات، وعلى خطاهم سار الحداثيون العرب في قراءاتهم حول القرآن الكريم، فعندهم جميعًا أنَّ انتقال الخطاب من الغيبة إلى الحضور أو العكس، ومن الإفراد إلى التثنية، ومن الإفراد إلى الجمع، ومن التثنية إلى الجمع، وإلى غير ذلك من طرق انتقال الخطاب من شأن إلى آخر_فعندهم جميعًا أنّ هذه الأعراف الأسلوبية تعدّ أمارة من أمارات بشريّة القرآن، و من علائم الطعن بوثوقيته وأصالته.
إذا كان المستشرق _نظَرًا لاختلاف ثقافته و مرجعياته الفكرية_ لا يستوعب أعراف العرب في التخاطب ولا معهودها في بناء الخطاب، فيجعل فنَّ الالتفات أو عدم التطابق الإحالي للضمير سبيلًا لتحييد المؤلف أو تغييبه في النَّصِّ القرآني _نقول إذا كان المستشرق لا يستوعب هذا العرف التخاطبيّ، فما خطب الحداثيين ، أ هم أيضًا لا يستوعبون أعراف التخاطب لدى العرب؟. أ يُعقلُ أنْ يسيء الحداثيّ المستنير فهم بلاغة الالتفات، أم المسألة لا تعدو أنْ تكون افتعالًا لسوء الفهم؟!. هذا ما تسعى الدراسة إلى الوقوف عنده والإجابة عليه.
الكلمات المفاتيح:(المتكلِّم في القرآن- الالتفات_ الخطاب الحداثي _الاستشراق)
"Who speaks in the Qur'an?"
The style of attention in the modern reading of the Koran
Summary
Rarely stand when reading orientalist about the Qur'an does not talk owner about the issue (speaker in the Holy Qur'an) is one of the issues fabricated by orientalists and they are in the face of the blessed verses that include the eloquence of attention, and in their footsteps Arab modernists walked in their readings about the Holy Qur'an, they all have that the transition of discourse from backbiting to presence or vice versa, and from individuals to Deuteronomy, and from individuals to combination, and from Deuteronomy to combination, and other ways of transmission of discourse from one matter to the Another – we say: they all have that these stylistic customs are one of the signs of humanity of the Qur'an, and one of the signs of challenging its reliability and authenticity.
If the orientalist - due to the difference in his culture and intellectual references - does not understand the customs of the Arabs in communication and is not familiar in the construction of discourse, makes the art of attention or mismatch referral of the conscience a way to neutralize the author or his absence in the Qur'anic text - we say if the orientalist does not understand this custom of conversation, what is wrong with the Arab modernists, or do they also not understand the customs of communication among the Arabs?. Is it conceivable that the enlightened modernist misunderstands the eloquence of attention, or is the issue nothing more than a fabrication of misunderstanding?!. This is what the study seeks to stand at, or answer.
Keywords: (The speaker in the Qur'an - paying attention - modernist discourse - Orientalism)
المقدِّمة
الحمد لله, والصلاة والسَّلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه.
(من الذي يتكلم في القرآن الكريم؟) هذا السؤال أحد إفرازات النظرية النقدية المعاصرة، وهو سؤال مربِك فرض نفسه على الخطاب الحداثيّ حول القرآن، بما أنَّ الهمَّ الأوّل لهذا الخطاب هو إخضاع النَّص الديني لمقتضيات النظرية النقدية المعاصرة ومقولاتها، ومن ثمَّ البحث عن المواطن المُقلِقة في النص بغية افتعال سوء الفهم وفتح باب التأوُّل و التقوُّل على مصراعيه.
من شروط النصيّة في النظرية الأدبية المعاصرة أنْ يعكس النصّ صوتين: صوت المبدع و صوت المستقبل، أو أنْ يأخذ كلٌّ منهما (دور الآخر)بأنْ يتمثّل كلا طرفي الخطاب بعضهما هذا من جانب. ومن جانب آخر فإنَّ قراءة النَّصّ بالاحتكام إلى هذه الشّروط بمقدورها فرز المتكلّم الحقيقي عن كائنينِ آخرين يزاحمانهِ على الملفوظ, وهما :القائل والمتلفظ .و إلى هذا أصبح لزامًا أنْ يُحاكَمَ النَّصُّ _أيَّ نصٍّ_ وفق هذا الشرط. وعندئذٍ يبرز هذا السؤالٌ:(أ يُحاكمُ القرآن الكريم وفق هذه الفرضيّة؟).
وجد المستشرقون قديمًا في أسلوب الالتفات منطلقًا لتحييد المؤلف في القرآن الكريم و تقليص دور الله تعالى فيه، وعلى نهجهم سار الحداثيون في العالم الإسلامي، فعندهم جميعًا أنَّ انتقال الخطاب من الغيبة إلى الحضور أو العكس، ومن الأفراد إلى التثنية، ومن الأفراد إلى الجمع، ومن التثنية إلى الجمع، وإلى غير ذلك من طرق انتقال الخطاب من شأن إلى آخر, كلُّ أولئك يُعدُّ من أمارات بشريّة القرآن، و من علائم الطعن بوثوقيته وأصالته.
إذا كان المستشرق _نظَرًا لاختلاف ثقافته و مرجعياته الفكرية_ لا يستوعب أعراف العرب في التخاطب ولا معهودها في بناء الخطاب، فيجعل فنَّ الالتفات أو عدم التطابق الإحالي للضمير سبيلًا لتحييد المؤلف أو تغييبه في النَّصِّ القرآني _نقول: إذا كان المستشرق لا يستوعب هذا العرف التخاطبيّ، فما خطب الحداثيين ، أ هم أيضًا لا يستوعبون أعراف التَّخاطب لدى العرب؟. أ يُعقلُ أنْ يسيءَ الحداثيّ المستنير فهم بلاغة الالتفات، أم المسألة لا تعدو أنْ تكون افتعالًا لسوء الفهم؟!. هذا ما تسعى الدراسة إلى الوقوف عنده الإجابة عليه.
جاءت الدراسة على ثلاث فقرات, تناولنا في الفقرة الأولى أسلوب الالتفات من منظور اجتماعي ثقافي لتأكيد أصالته وأنَّه من معهود العرب في الكلام. أمّا الفقرة الثانية, فعرضنا فيها مسألة المتكلم في القرآن الكريم في خطاب الحداثة, مكتفين بقراءات علي الدَّشتي و عبد الكريم سروش و ميثم الحلو, أمّا في الفقرة الثالثة فقد حاولنا بإيجاز العود بالمسألة إلى جذورها و مرجعياتها.
أولًا: الالتفات من علائم اجتماعيَّة العربيَّة
اللغة نظام، و لعلّ أدقّ تعريف ننتقيه للنظام _لكي ينسجم مع ما نحن بصدده_ تعريف تالكوت بارسونز الذي يرى في النظام مجموعة من الأدوار الثابتة القائمة على تبادل التوقّعات بالاستناد إلى معايير وقيم مشتركة بين أفراد المجتمع، ففي مخزون كلّ فرد مجموعة من التوقعات التي تتناسب مع ردود الفعل لدى الآخرين( ).
غير أنّ النظم الاجتماعية _وبالأخص منها اللغة_ قابلة للانتهاك والتغاضي عن التوقعات المحددة والمتفق عليها عُرفًا وعادةً، ومن هنا تتّجه الدراسة الاجتماعية واللغوية من "النظام" صوب "الفعل" وهكذا ففي اللغة حين يصادفنا خرق أو انزياح تعبيري سرعان ما ننتقل من الحديث عن المعيار أو القاعدة التي تضبط الملفوظ إلى الحديث عن الأسلوب أو الدواعي التي أدت إلى إحداث قطيعة في بنية الملفوظ.
بالاستناد إلى ذلك لا يتوقف مفهوم التلقّي ،فحسب، على "تصور المرسلة الكلاميّة وإدراكه لدى المخاطب" فهذا التحديد قاصر عن استيعاب إمكانات اللغة، لأنّ في اللغة إمكانات مزدوجة قائمة على المشاركة التي تعني :الثقة المتبادلة بين كلا طرفي الحوار(=المتخاطبينِ) و ضرورة أخذِ كلٍّ منهما دور الآخر، وبعبارة أخرى: لكي يفهم كلا طرفي الحوار بعضهما البعض وينجحا في تدشين خطاب ناجع، ينبغي عليهما وضع أنفسهما مكان الآخر، فالمتكلم هو مستمع في الوقت ذاته، و إلّا فثمّة خاصية اجتماعية للذات حتى في أشدّ حالات العزوف والعزلة، و لعلّ هذه الخاصية سمة من أروع سمات العربية التي استحقَّت أنْ تنسب إليها الشجاعة, و هكذا عبر علماؤنا عن جرأة المتكلم و ثقته بنفسه عند الكلام عن(شجاعة العربية ) .
يراد بشجاعة العربية جرأة المتكلم على الانزياح عن نظام اللغة بإقدامه على التففن و صرف الألفاظ و التراكيب عن وجوهها بكل ثقة و شجاعة، غير أنّ هذه الثقة لا تقف على المتحدّث وحده ولا حتّى على سعة اللغة، بل تقف بالضرورة على ثقة المخاطب وإمكاناته على غرار الفارس المقدام الذي يُقبل على الخطر بكل ثقة و من دون أدنى ارتباك, وذلك أنّ التوسّع في ممكنات اللغة و تصريف الكلام عن وجهه والتفنن في إلقائه خاضع لا محالة إلى مدى استعداد الآخر و إمكان تقبّله، أي شريطة أنْ يأمنَ المتكلم سلامة مرسلته وعدم إحداث حاجز نفسي أو اجتماعي بينه وبين شريكه، كأنْ يرتطم بعائق دلالي أو تداولي يُدخِل ملفوظه في حيّز المخالفة أو عدم التلاؤم.
ومن البلاغيين من يقلص مفهوم شجاعة العربية بأسلوب (الالتفات) الذي يعني- باختصار- الانحراف عن مطابقة الضمير لمرجعه(( لأنّه ينتقل فيه عن صيغة، كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك ...و يسمى أيضًا "شجاعة العربية"، وإنما سمي بذلك؛ لأن الشجاعة هي الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات)).()ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى:( حتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍۢ طَيِّبَةٍۢ)(يونس:22) إذ تلحظ أنَّ الضمير في الفعل (كنتم) للحاضرين و في(بهم) للغائبين ،على الرغم من أنهما كنايتان عن مرجع واحد(=راكبي الفلك)و في ذلك انتهاك لنمطية المطابقة في الضمائر عبر الانتقال من الحضور إلى الغياب.()
الالتفات من أشهر أساليب العربية التي ما زال لها حضور في لهجاتها على امتداد العالم العربي, وهو من أمارات بلاغة التلقي عند العرب, خذ مثلًا اللهجات في بلدان المغرب العربي،إذ يتحدث الفرد عن نفسه بصيغة ال(نحن)كثيرًا:(نروحُ_نرجعُ....إلخ)إنّ هذا الاستعمال قد يعكس مرحلة من حياة المجتمع كان الالتزام الجماعي و الإيثار يشغلان روح الجماعة أكثر من أيّ شيء،ففي تلك المرحلة كانت شخصية الفرد مقيدة ومثقلة بهموم الجماعة وفروضها,ومحاولة الفرد إبراز ذاتيته تعدّ مثلبة،بل قد تعدّ إثمًا،فنحن إلى يومنا هذا نقول:(أعوذ بالله من كلمة أنا(!
وإزاء ذلك يتغلب ضمير المتكلم(أنا)في المجتمعات ذات التضامن العضوي،أو في المجتمعات الحديثة التي يعاني نسيجها التضامني من هشاشة ووهن،حيث يستفحل فيها النزوع الذاتي و محاولة الأفراد فرض ذواتهم وتأكيدها بالخروج على ثوابت الجماعة.
أمّا في المجال اللساني فليست بالأمر الجديد إشارات اللسانيين والمنشغلين بالنظرية السردية إلى أنَّ الضميرين(نحنُ ونا المتكلمين)فيهما غموض و إشكال في المرجع، فالمسألة لا تتعلق ب(التعظيم)و(التواضع) فحسب، وإنّما هي وجه من أوجه الحوارية المترسخة في اللغة، يقول(بنفست)عن استعمال الفرد ضمير الجمع :((إنه ليس "أنا" مجموعًا، بل هو الضمير "أنا" و قد تمطّط)) ().
إن انتهاك مطابقة الضمير مرجعه، أبعد من أن يكون ظاهرة لغوية بحتة، فللمجتمع و التكوين النفسي فيه دور، إذ يرد في مناسبات كثيرة، فلكلّ حالة انتهاك مناسبة وغاية، ويمكن أنْ نشخّص ذلك(من لحن القول) أو من مقامات الكلام، فقد يراد بتعبير الفرد عن ذاته بصيغة الجمع التواضع، وقد يراد به التعظيم، وقد يراد به الإيثار و إحساس الفرد بالاندماج في الجماعة.
وما قيل عن (نحن و أنا) يُقال أيضًا عن (أنت أنتم)وللأسباب ذاتها، خذ مثلًا قوله تعالى:(وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍۢ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍۢ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) (يونس:٦١(
نلحظ هنا كيف يتضخّم ضمير المخاطب بالتدريج:
_وما تكونُ(أنتَ يا محمد.(
_وما تتلوا (أنت يا محمد )و الألف وقف وليس للتفريق، لأنه مضارع معتل.
_ولا تعملون(أنتم يا أمة محمد).
فالمخاطب في "تتلو" سيدنا محمد، وكأنّ الألف زيدت و شبّهت الواو الأصلية بواو الجماعة، لإعمام الخطاب على أمة المخاطَب صلى الله عليه وسلّم.
وهكذا لا يمكن أنْ تُحمل تحولات الضمير في بنية الكلام على الخلخلة والتشويش كما يصرّح بذلك الحداثيون, فهذه التحولات من سنن القول لدى العرب.
هذا ,فضلًا عن أنَّ العرب(( يسأمون الاستمرار على ضمير متكلم، أو ضمير مخاطب ، فينتقلون من الخطاب إلى الغيبة، وكذلك يتلاعب المتكلم بضميره ,فتارة يجعله ياء على جهة الإخبار عن نفسه، وتارة يجعله كافاً أو تاء فيجعل نفسه مقام الغائب، فلذلك كان الكلام المتوالي فيه ضمير متكلم أو مخاطب لا يستطاب ، وإنما يستحسن الانتقال من بعضها إلى بعض))()
إنَّ استمرار الكلام على وتيرة واحدة يجلب الملل, لهذا السبب يتوسّع مفهوم الالتفات متجاوزًا انتهاك المطابقة في الضمير وتحوّلاتها بين الحكاية والخطاب والغيبة, إلى العدول من أسلوب إلى آخر مخالف له ()
إن انزياح المتكلم عن نمطية اللغة إنما هو شجاعة لا يؤتاها كل الناس على السواء، لأن مدار هذه الشجاعة على ثقة المتكلم بنفسه و قدرته و استعداده على التفنن من جهة، وعلى إمكان أخذه دور المخاطب وتمثّل حاله من جهة أخرى، فكلّما ازدادت الثقة بين المتحاورينِ كان الكلام أقدر على التفنن و أطوع للتوسع.
نستطيع من خلال "شجاعة العربية" أن نصل إلى إشارة ثقافيّة سارّة كانت سمة أصيلة في العرب، فنحنُ حين نعاين شجاعة العربية عبر هذه الأساليب و الفنون في متون التراث، نلحظ أنّ العرب كانت أمة تحفل بأخلاقيات التواصل و تؤمن بالحوار و التعايش، فشجاعة العربية شجاعتان: شجاعة اللغة بالنظر إلى ما فيها من سعة وليونة، و شجاعة ناطقي اللغة نظرًا لما كان بين أفراد الأمة من ثقة و اطمئنان واحترام ،فقد كان العربي يوسّع من إمكانات اللغة عبر اتّساعه في القول بثقة وأريحية، وهو على يقين و إيمان بشركائه.().
ولكن,على الرَّغم من أنّ الالتفات يُعدّ أنموذجًا لحواريّة اللغة وتضمن الملفوظ أكثر من صوت ومراعاته أحوال المتكلمين,فإنّه لا يمكن أنْ يكون وسيلة لانعدام سيطرة المتكلم على ملفوظه كما يشيع ذلك في الخطاب الحداثي حول القرآن, فقديمًا شغل الالتفات عناية اللغويين والبلاغيين, وأشاروا إلى السّمة الحوارية في هذا الفنّ, ولكن عنايتهم لم تتجاوز ((التركيز على المتكلم، واتخذ هذا التركيز صورة ربط الالتفات بأمرين هما: حالة المتكلم وعلاقته بالذوات الأخرى. فبالنسبة إلى حالة المتكلم نجد أن الانتقال يتم من حالة إلى أخرى …أما بالنسبة إلى علاقته بالذوات الأخرى، فإن المتكلم، كما لاحظ الأخفش وأبو عبيدة، ينتقل بين عدة ذوات فيوجه خطابه لذات ثم ينقله إلى أخرى، أو يشقق ذاتا واحدة إلى عدة ذوات فيجعلها متكلمة حينا ومخاطبة حينا، وغائبة حينا آخر، ويراوح بينها في خطابه, وهذا يشير إلى الجانب الحواري من تفكير اللغويين، فهم قد لاحظوا هذا الانتقال بين الذوات في الكلام وأدركوا أنه أسلوب من الأساليب البلاغية أو أنه مجاز من مجازات التعبير العربي باصطلاح أبي عبيدة. ويؤكد هذا مرة أخرى كون وظيفة تعامل الذوات interpersonal function أساسية في عملهم، وجوهرية في فهم ما أنجزوه، كما أنها الأساس المتين الذي استطاعوا من خلاله إنشاء نظر وظيفي للغة قادهم إلى تأسيس الدرس البلاغي)) .().
ومن كلّ ذلك نصل إلى أنَّ أساليب القرآن معهودة عند العرب, وليس الالتفات ممَّا يشذُّ عن معهودهم, وما ورد منه في القرآن لا ينبغي أنْ يُساء فهمه أو أن يُفهم منه شيءٌ بعيدٌ عن طباع أهل الثقافة.
ثانيًا: من الذي يتكلّم في القرآن؟.
إنّ سعي الحداثيين للكشف عن سياقات القول والمتكلم في القرآن الكريم راجع أساسًا الى الخطاب النقدي حول التوراة والإنجيل، فممّا أثاره سبينوزا _مثلًا_في قراءاته البشرية للعهد القديم هو أنّه يتحدث عن موسى بضمير الغائب، كما يسرد وقائع من المستبعد أن يكون هو قائلها عن نفسه,وليس هذا فحسب وإنما يُعطي الراوي عن موسى شهادات عديدة مثل:( تحدث الله مع موسى )و(كان الله مع موسى وجهًا لوجه) () وعلى العكس من ذلك يتحدث موسى بضمير المتكلم في سفر التثنية الذي كتبت فيه الشريعة التي شرحها لبني إسرائيل فيقول: كلمني الرب() .... اللهمّ إلَّا في آخر السفر حين يستمر المؤرخ بعد أن نقل أقوال موسى وحكى في روايته كيف أعطى موسى الشعب هذه الشريعة، وكلّ هذا يدعو إلى الاعتقاد بأن موسى لم يكتب هذه الأسفار بل كتبها شخص آخر().
وبالمثل قام المستشرقون بتفعيل هذه التقنية في دراسة القرآن الكريم,وعلى هذا جعلها نولدكة وسيلة تمكّنه من(( التعرّف على سور هذه الفترة_يقصد الفترة التي نزلت فيها السور المكيّة_ بشيء من اليقين من خلال أسلوبها . إن قوة الحماس الذي حرّك النبي في السنوات الأولى وجعله يرى الملائكة الذين أرسلهم الله إليه، كان لا بد لها من أن تعبر عن نفسها في القرآن . الله الذي يملأه يتكلم بنفسه، فيتراجع الإنسان تماما ، كما لدى أنبياء إسرائيل العظام في العهد القديم .)) ()
إنّ الإشكالية التي تعانيها الكتب المقدّسة لا يمكن سحبها على القرآن, ذلك أنَّ موثوقية القرآن لا يرقى إليه شكّ,إذ ليس هناك مؤرخ يجمع ما رواه موسى عن ربّه, وذلك لأنّ حفظ القرآن لم يكن كما كان حفظ التوراة والانجيل,ونولدكة يعترف بذلك على الرَّغم من مغالطة كونِ الرسول عليه الصلاة والسلام هو مؤلف القرآن ,إذ يقول:)) في ما يتعلق بكيفية نشوء الكتب المقدسة، اختلاف شكلها الأدبي أيضًا. فالكتب المقدسة اليهودية والمسيحية هي من صنع الانسان، بالرغم من أنّ التصور ساد في وقت مبكر بأن الروح القدس ألهم كتاب أسفار الكتاب المقدس ما كتبوه ... لكن كلام الله الفعلي لا يوجد في هذه الكتب إلَّا حيث يتحدث الله نفسه إلى الأنبياء أو اتقياء آخرين مختارين. أمَّا القرآن فيختلف عنها اختلافا تامًا,فبالرغم من أنّ محمدًا هو موضوعيًّا وفعليًّا مؤلف الآيات والسور الموضوعة في هذا الكتاب، فهو لا يعتبر نفسه صاحبها ,بل الناطق باسم الله والمبلغ كلامه وإرادته ,لهذا السبب لا يتكلم في القرآن إلَّا الله، والله وحده لا يسع المتخصص في تاريخ الأديان إلَّا أن يرى في هذا الأمر وهمًا . لكن النبي كان متحمسًا حماسًا بالغًا ,واعتقد جدّيًّا بالأصل الالهي للآيات والسور وآمن أتباعه بذلك)).()
يسعى الحداثيون_ أسوة بالغربيين_ الى افتعال الإشكالية ذاتها مع القرآن الكريم, ,فتراهم وكأنهم لا عهد لهم لا بالبيئة العربية ولا بأساليب العرب في الكلام ,ولا بلغة القرآن الكريم, على نحو ما نجد عند مجموعة منهم وهم يفتعلون إساءة فهم الآيات التي اشتملت على أسلوب الالتفات ,على الرغم من أنّ الالتفات من أشهر و أجلّ فنون القول في لغة العرب.
إذ يرون _مثلًا_ أنّ قوله تعالى(إياك نعبد)في سورة الفاتحة ليس كلام الله تعالى, وهم في هذا يستندون إلى فرضية تحديد هوية المتكلم في النظرية السردية المعاصرة, من أنّ بنية الضمائر وتحولاتها في الخطاب القرآني تثير إشكالية كبيرة أمام إلهية القرآن وكونِه من الله تعالى خالصًا، فالمسألة عندهم لا تؤخذ على أنّها مجرد إحلال ضمير مكان آخر، بل يترتّب عليها القول بأنّ القرآن في هذه المواضع يكشف عن تداخل صوتين، ممّا يعني تسلّل الطابع البشريّ فيه، وذلك أنّ سياق التلفّظ نفسه يؤكّد أن المتلفظ ليس واحداً ،بل يختلط صوت محمد بصوت الله().
لذا يرى علي الدشتي _ أنّ الآيات التي يتداخل فيها صوتا الله تعالى و سيدنا محمد، لا يمكن أن تكون كلمات الله، ومن ذلك سورة الفاتحة، فمن الواضح أنها كلمات محمد,لأنها تتألف من حمد الله والثناء عليه وتضرّع لعونه. وما كان الله نفسه ليقول : ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱠ [الفاتحة: 2/1]، ومثل هذه المشكلة ما كانت لتكون لو أنَّ سورة الفاتحة سُبقت ب(قلْ) على نحو ما نجده في كثير من السور والآيات... ونجد في بعض آيات القرآن أن الفعل يأتي بضمير المتكلم, على حين يأتي في بعضها الآخر بضمير الغائب... ويشتمل القرآن على أمثلة كثيرة يختلط فيها المتكلمان: الله ومحمد. فقد يكون ذلك في الآية الواحدة ذاتها. ومن هذه الأمثلة الآية الأولى من سورة الإسراء : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ آيَاتنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء : 1/17]. إن تسبيح الله لا يمكن أن يكون كلام الله ونطقه. أما الجزء الثاني (الذي باركنا حوله)فهو من الأمثلة اللافتة على تبديل الفاعل من المتكلّم إلى الغائب كما في الجملة الافتتاحية في سورة الفتح( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ )[الفتح: 1/48-2] فسياق التفكير كان يقتضي أن تكون الصيغة على هذا النحو(لنغفر ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ) وحضور الخلط بين صوتي الله والنبي في القرآن لا يمكن أن يناقش نقاشاً موضوعيًّا, ففي بعض الأحيان يتكلم الله، وفي بعض الأحيان تثبت بنية الجملة أن النبي هو من يتكلّم معبّراً عن تقاه وإخلاصه لله . والانطباع الذي يخلقه القرآن هو أن ثمة صوتاً خفياً في نفس محمد أو عقله اللاواعي لا يني يدفعه إلى هداية البشر، ويكفّه عن الزلل، ويزوده بحلول للمشكلات() .
ما ينتهي إليه كلام الدشتي هو حضور صوت طرفي الخطاب في النص بما يدفع إلى حضور كلا الجانبين من شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: كونه نبيًّا يتلقى الوحي، وكونه إنسانًا يضيف من ذاتيته على القرآن.
أمّا عبد الكريم سروش، ففي قراءته الغنوصية للقرآن يجعل النبي راويًا لما يراه, ويقلص دور الإله ويبطل مسؤوليته عن الكلام, فالذي يتكلم في القرآن هو سيدنا محمد الذي رأى أحلامًا فرواها بلفظه ،بمعنى أنَّ الله لم يقل خطاباً ولم يكتب كتاباً، بل الإنسان التاريخي هو من تكلم بدلاً عنه وكتب كتاباً بالنيابة عنه، وأصبح خطاب الإنسان التاريخي خطابه، وهو قول إلهي في جلد بشري، وما وراء الطبيعة أضحت في ثوب طبيعي، وما وراء التاريخ أصبح في معرض التاريخ, بمعنى أنه ليس مخاطبًا وليس مخبرًا، وكذلك ليس بمخاطب يأخذ الأصوات في سمعه الباطني ويبلغه إلى الآخرين، بل إن محمداً راوٍ لتجارب، ومشاهد لمناظر قد رآها، والفرق عظيم بين ناظر راوٍ ومخاطب مخبر ,فالله تعالى لم يخبره بأن اذهب إلى الناس وقل لهم :إنَّ الله واحد. بل هو الذي رأى الله بصفته الوحدانية وشاهدها، ونقل مشاهداته إلينا. كذا لم يخبره أحد بأن اذهب إلى الناس وقل لهم بأن الله والملائكة وأولي العلم شهدوا بوحدانية الله. بل هو رأى وسمع شهادة الله والملائكة وأولى العلم، وروى ما راه وما سمعه. ()
وهكذا على غرار سابقيه يرى أنّ فاتحة الكتاب تكشف عن أحد مؤيدات نظريته عن كون القرآن ليس إلّا عبارة عن رؤى محمد، فالدعاء في هذه الصورة يكشف عن صوتين: صوت النبي وصوت الله((إنها لغة الرسول تعلو في هذا المقطع من القرآن دون أدنى تكلف في هذا المكان هو من يتكلم.))() فالمسألة ليست_ كما يدعي المفسرون والبلاغيون_ داخلة في البلاغة و التفنّن في القول، فهذه الفنون يصطنعها الإنسان في حالة اليقظة،((أما في عالم عدم اليقظة فهي حقائق. وفي القرآن حينا يتكلم الشخص الأول مكان الشخص الثاني وأحيانا الثاني يقوم مقام الاول، هذا يحدث في ضمير وفي خيال محمد الله واقعاً، وليس من باب الصنعة اللغوية والتحسين الكلامي، هو في ذات الوقت متكلم ومخاطب وناظر وينوب مناب كل منهم))().
ثمّ يأتي سروش إلى تأييد قراءته بآية من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﱠ [الأعراف 57: ] فعنده أنّ شخصًا بادر بالكلام، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، بادر قائلًا :إنّ الله يرسل الرياح، ثم يأخذ الله بزمام الحديث ليقول نحن نسوق الغيوم، وهنا تغيير في مكان الحاضر والغائب، ليس في العبارة وإنَّما في المتن الواقعي للرؤيا، وكأن النبي يتحدث بلغة الله، وأحيانا يتكلم الله بلغة النبي، في هذا النموذج يمكن التحقق والمصادقة على أكثر من صوت للقرآن. أما صيغ ( قل) و(أنزلنا ) فالأمر فيها بات واضحاً))(). وهو يقصد أنّ هاتين الصيغتين يأتي بهما النبي ليؤكد زعمه من أن كلامه من الله تعالى.
وعلى خطى الدشتي وسروش يعرض ميثم الحلو الرأي نفسه حرفيًّا, ولا يزيد عليه إلا مجموعة من الآيات ورد فيها الالتفات, فهذا دأب الخطاب الحداثي المعاصر الذي يفتقر إلى أخلاقيات الأمانة العلمية و ضرورة نسبة الأقوال إلى أصحابها، فعلى الأقل كان على ميثم الحلو أن يستشهد بعلي دشتي لكي نميّز صوته عن صوته!.
على أيّة حال, فبالنظر إلى عائدية الضمائر و التلاعب بها يرى هذا المستنير إمكان تحديد المتكلم الحقيقيّ, فهذه المسألة قد تفكّ الادغام الحاصل بين صوتين متماهيينِ ببعضهما, وهو يستعين بفرضية تمييز المتكلم عن القائل لمعرفة: هل القرآن كلام الله؟ وهل الله متكلّم أصلاً؟ أم الكلام كلام النبي بوحي إلهي فيكون كلامه إلهيًّا؟.
يرى الحلو جازمًا _عند قوله تعالى في فاتحة الكتاب_ ﭐﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱠ [سورة الفاتحة: 5] ((أنّ المتكلّم في الآية ليس الله فالمتكلم هنا يدعو الله ويخاطبه بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) ويطلب منه الهداية الى الصراط المستقيم. بل نجزم أيضاً _والكلام للحلو_ أنَّ المتكلم هنا لم يصل الى مرتبة موسى وهارون في القرآن. فقد قال القرآن عنهما وهديناهما الصراط المستقيم ,والفارق واضح بين من يطلب الهداية وبين المهديّ... سورة الفاتحة بمثابة دعاء يدعو به العبدُ اللهَ ,فنقول إنه لا يوجد في السياق ما يثبت ذلك, فإن كان قولاً أراد الله تعليمه لنبيه أو لعباده لسبقه كلمة( قلْ) كما في سورة الصمد والكافرون والمعوذتين وغيرها. إذن فالواضح أنّ المتكلم في الفاتحة ليس الله))() .
نرى أنّ الخطاب القرآني لا يلتزم في نظمه مسلكًا واحدًا, فماذا يعني لو خلا الدعاء من لازمة(قلْ)في سورة الفاتحة, هل يكون ذلك داعيًا أو حجّة على كونه محرّفًا؟.
بيد أنّ الحلو لا يزيد على كلام الدشتي وسروشت شيئًا, بل يندمج صوته بصوت الاثنين فلا نميّز أحدهم عن الآخر ,اللهمّ الّا التقليل من شأن النبيّ وأنَّه لم يبلغ بعد منزلة موسى عليه السلام,وكذا حين يمضي ليؤكّد رأيه بسرد الآيات التي فيها انتهاك الضمير لمرجعه,فلا يأتي بشيء جديد سوى شتم المفسرين والبلاغيين والاستهزاء بهم. يقول:
((ولو لاحظنا صيغ المتكلم في القرآن نجدها أحياناً بصيغة المفرد وأحياناً بصيغة الجمع ,فتارة يقول (أنا )وأخرى يقول( نحن). ومثل ذلك ضمير المتكلم, فأحياناً يكون الياء, وأحيانا يكون (نا) المتكلمين, وأحياناً يكون حاضرًا وأخرى يكون بصيغة الغائب... سيأتي الملفقون ليقولوا إنَّ من البلاغة الانتقال في الخطاب من المتكلم الى الغائب, وهم في هذا كمثل الذي يجد حشيشًا في الشارع فيشتري للحشيش خروفاً , لو تأملنا في الآيات: ﭐﱡﭐ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥﳦ ﳧ ﳨ ﳩ ﳪ ﱠ [مريم/64] ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱠ [مريم/ 65] نجد بكلّ وضوح متكلمين آخرين، فهم يقولون إنهم يورثون الجنة للتقي من عبادهم ,ثم يستأنفون الكلام بقولهم :(وما نتنزل إلا بأمر ربك). ثم يستمر الكلام بعدها عن الله بصيغة الغائب, فالمتكلمون هنا قطعاً ليسوا الله , ولو بحثنا في سورة الذاريات لقرأنا كلام المجموعة ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﱠ [الذاريات/51] فالمجموعة هنا بنَت السماء وفرشت الأرض ثم تحول الكلام بلفظ المفرد المتكلم ليطلب من المخاطبين أن يفروا الى الله (بصيغة الغائب) لأنه منه نذير مبين. بالمحصلة يتّضح لنا_وبعيداً عن بعض التأويلات الباطنية والغنوصيَّة_ أنّ القرآن ليس كلام الله, بل كلام النبي الذي تشبع وجدانه بالله, فأنتج النص, وعلى هذا ذكر القرآن في أكثر من موضع( إنَّه لقول رسول كريم) كما في الحاقة والتكوير.)) () .
ثالثًا: مرجعيات الشُّبهة ونقدها
كلَّ هذه القراءات بطريقة أو بأخرى تستند إلى مرجعين, أولهما فكرة تحييد المؤلف في النظر السرديَّة البنيوية التي ترى أنَّه لم يعد العمل تعبيرًا عن المؤلف, ولا تمثّل أيّة شخصية من الشخصيات ذات المؤلف ولا هو مسؤول عن كلّ ما يرد في عمله, فإذا كانت المناهج السياقية قد بالغت في قضية الالتزام و حملت المؤلف مسؤولية كل ما يرد في عمله, فإن البنيوية جهدت الى عزله عن عمله وتجريده من أية مسؤولية شرعية أو قانونية أو اجتماعية عما يرد في منتوجه, وعندئذ تقع الكتابة في موقع اللامسؤولية().
في النظرية السردية الحديثة ليس للمؤلف حضور في العمل السرديّ، فقد جهدت النظرية في صيغتها البنيوية _بل حتى ما بعدها_ إلى عزل المؤلف عن عمله ,ولهذا كثر الحديث عن الراوي بوصفه قناعًا أو أداة تقنية يختبئ الكاتب خلفه، و كذا كثر السؤال عن الذي يتحدّث في القصة والرواية، و عن علاقة الراوي بمن يروي عنه، و هكذا حين تسأل المعنيين بالسرد: إذن من الذي يتحدث في القصة؟. يجيبك على الفور:(الذي يتحدّث هو الراوي أو السارد أمّا المؤلف فليس سوى وسيط سلبي).وفي هذا الموقف تجسيد واضح للمنهج البنيويّ الذي ارتكز على نصيّة النص من الداخل بعيدًا عن محيطه كما فعلت المناهج السياقية، لا سيّما التي ارتكزت منها على قضية "الالتزام" تقول الدكتورة يمنى العيد لتسويغ هذه الرؤية:((هكذا ننتقل من نظرية الالتزام في الأدب إلى نظرية الأدب اللامسؤول، تَسقطُ مسؤولية الأديب، كأنّ الكتابة في حداثتها تنتقل إلى موقع اللامسؤلية، أو كأنّ مسؤوليتها تتحدّد في مفهوم آخر هو الشهادة،[أي]شهادة الكتابة على واقعها الثقافي.....)) .()
السرد، بناءّ على ذلك، ليس مادة توثيقية، لأنّه عمل ليس واقعيّا بل يقدم عالمًا متخيلًا، ومن النادر أن يتغلغل المنظور الذاتي للمؤلف في عمله، ومن هنا أخذت تبرز نغمة(تحييد المؤلف) والنظر إلى حضوره الفعلي في العمل بسلبية، و عندئذٍ لا ينبغي بأيّ وجه أنْ يدان الروائي على لغته و لا على مضمون مادته الفنية.
هذه الجملة (قال الراوي) في أعراف أهل السرد تحصّن المؤلف وتخلي مسؤوليته عمّا يدور في العمل السردي: رواية كانت أم قصة أم شيء آخر،فما يَرِد في الرواية من كفر و ازدراء بحق الله وأنبيائه ورسله وملائكته القدر خيره وشره، ليس للروائي دخل فيه، فالذي يتحدّث هو الراوي، أمّا المؤلف ف"ضيف شرف" ليس إلّا !.
وقد بلغت هذه الفكرة مداها لدى رولان بارت حين أعلن عن موته , فمن أمارات نصيَّة النَّصّ القضاء على صوت الأب ,وذلك لأنّ(( هذا الانفصال سرعان ما يحصل فيفقد الصوت مصدره، ويأخذ المؤلف في الموت وتبدأ الكتابة. وبالرغم من ذلك، فإن الإحساس بهذه الظاهرة اختلف باختلاف المجتمعات, ففي المجتمعات الإثنوغرافية لا يتكفل شخص بعينه بنقل الحكاية، وإنما الناقل هو الشامان أو الراوي، الذي قد نعجب بالكيفية التي ينجز بها النقل, أي بتمكنه من قـواعـد السرد، وليس بعبقريته على الإطلاق)) ()وإلى هذا سيقع كلّ تأويل يدين المؤلف في دائرة "سوء الفهم" بدعوى أنّ عمله تخييل أو تمثيل و لا ينبغي أن يُقرَأ على أنّه موقف كاتبه الصريح ممّا يتناوله.
هذا هو المغزى من الحديث عن المتكلّم في القرآن عند الحداثيين,وهم يقرأون القرآن قراءة معاصرة بالاحتكام إلى هذه الفرضيّات.
أمّا المرجع الآخر لقراءات الحداثيين, فهو فكرة انشطار الذات عند باختين التي تلقَّفها منه التداوليون, ففي معرض حديثه عن الحوارية يصرُّ باختين على حتميّة عود كلّ خطاب بالضرورة على فاعلين اثنين أضعف الإيمان، ومن ثمَّ إلى(حوار محتمل)،وبهذا صار باستطاعتنا الحديث عن (أنّ الاسلوبَ رجلانِ)على أقل تقدير بين المتكلّم ومجموعته الاجتماعية ,وهذا ينتهي إلى استحالة وجود تلفّظ مجرّد من الأثر الفعَّال لطرفي الخطاب.()
وهذا ما انتهى بالتداوليين , إلى أنْ يشمل مفهوم (المتكلم) كائنات ثلاثة على الأقل, لكل كائن من هذه الكائنات وظيفة يؤديها. فالمتكلم هو الذات المتكلمة (Sujet parlant) وهي ذات تجريبية أنتجت القول في مقام ،مخصوص، على حين أنّ الكائنين الآخرين هما كائنانِ خطابيان: أحدهما القائل الذي هو مصدر القول في الملفوظ والطرف المسؤول عن الكلام، وأما الآخر فهو المتلفظ (Enonciateur) المضطلع في ذاك الملفوظ بأداء دوري الإدراك وإنجاز أعمال لغوية كالاستفهام والإثبات والوعد, هذا علاوة على أن المتلفظ يمكن أن يكون صوتًا أو مجموع أصوات حاضرة في كلام ذاك المتكلم، بل إنّ الشخص قد يكون متكلمًا ومتلفظًا في الآن نفسه في الملفوظ لا مراء، إنّ هذا التمييز الحاصل بين هذه الكائنات ناجم عن وضعية منشئ الخطاب وعن دوره داخل عملية التلفظ ,ومن ثمَّ عن علاقة الخطاب نفسه بمفهوم تعدد الأصوات الذي سنّه باختين()
إنَّ هذا المنظور يستحيل تفعيله عند محاولة فرضهما القرآن الكريم, فالمتكلم في القرآن كلّه هو الله تبارك وتعالى, فهو المتكلم _ولكن باستبعاد الذات التجريدية_ وهو القائل وهو المتلفظ _ولكن باستبعاد كونه كائنا خطابيًّا, ومسؤولية كلّ ما يرد في القرآن هو الله تعالى, فمثلًا في قوله تعالى على لسان إخوة يوسف ﭐﱡﭐ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﱠ [يوسف:95] يمكن تمثيل الآية هكذا:
_قال تعالى(=المتكلم)
_قال إخوة يوسف(=القائلون المتلفظون)
_إنّك في ضلالك القديم(=التَّلفظ )
فهنا يعود ملافيظ الثلاثة (المتكلم والقائل والمتلفظ)إلى الله تعالى, وذلك لأن الله تعالى عبّر عمّا أضمروه في قلوبهم(=الضلال)بدلًا ممَّا أظهروه على ألسنتهم(=حبك القديم) () إنه تعالى ينقل مكنون قلوبهم وما أسروه ولم يظهروه, وبما أنهم أضمروه فلا يعدّ من كلامهم ولا قولهم ولا متلفظهم, ومن ثم فليسوا متكلمين ولا قائلين ولا متلفظين, وليسوا مسؤولين عما ورد في القرآن, وإذا نظرنا في لغة القرآن نجد تنويعًا أسلوبيًّا لأشياء مكرّرة, إذ ترد الآية مكرَّرة بألفاظ وتراكيب مختلفة, وكذا ترد القصص مكررة بتنويعات متباينة و إنِ اتَّحد مضمونها.
فضلًا عن أنَّ المسألة ليست في حاجة إلى هذا التعقيد, لأنها معهودة لدى المسلمين, فقد عبّر النحاة قديمًا عن كلّ ذلك بثنائية(القول ومقول القول) ومن ثمَّ يعرف المسلم متى يكون الكلام خالصًا لله تعالى ومتى يكون حكاية على لسان أحد عباده أو معبوداته, فنقول _مثلًا_ قال الله على لسان موسى عليه السلام,أو على لسان عيسى عليه السلام, إشارة إلى أنّ الكلام حكاية لما قاله, وليس خالصًأ له.
وهكذا الحال في آية الفاتحة, فعدم ذكر(قُلْ)لا يخلّ بمصداقيتها و أنَّها من الله تعالى, بدليل أنّه تعالى حين يقول للرسول صلى الله عليه وسلم ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱠ [الاخلاص:1] فإنّ الرسول ليس له أن يردد(هو الله أحد) بحذف(قُلْ)بل سينقل الرسول كلام ربِّه كما لقنه جبريل عليه السلام, وستردد الأمة كلها كلام الله كما لقنه جبريل().
وبعد كلّ هذا لنا أنْ نسأل:
أ يُعقل أن يسيء عربيُّ فهم فنّ الالتفات والتلاعب بالضمائر في القرآن الكريم أم لا يعدو الأمر _كما قلنا_ أن يكون افتعالًا لسوء الفهم ؟.
نرى أنّ افتعال سوء الفهم أصبحَ موضة فكرية بين النقاد, إذ ينبع ذلك من تأثّرهم بالمرجعيات الغربية و وفائهم لها,وعند هذا لا يعزّ على الناقد الإقرار بعدم فهم نصوص حضارته, ما يهمّه هو أنْ يتظاهر بفهمه النظريات الغربية الحديثة .
و هكذا نرى أنّ الدشتي وسروش و الحلو يصدرون من زعمنا هذا, فهم يستهينون بفهمهم القرآن و معرفتهم بأساليب العرب, لكنّهم يفون لمقولة(موت المؤلف)عند رولان بارت من جهة,و فرضية التعدد الصوتي وانشطار الذات في نظريتي السرد والتداولية.
وإذا أردنا أنْ نحاكمهم وفق هذه النظريات, فإنَّنا لا ندري من منهم الذي يتكلّم ,إذ لا تكشف ملفوظاتهم عن قائل حقيقي, لأنّ أصوات كلّ من الدشتي وسروش والحلو ما كان إلَّا صدى لإشارات المستشرقين الذين أثاروا هذه المسألة قديمًا ، وقد كان تيودور نولدكة أحد أولئك الذين أشاروا إلى المسألة في سياق حديثه عن قضية افتعال النبي صلى الله عليه وسلم استهلال السور بصيغ شكلية معينة بغية المصادقة على مصدرها السماوي ، أو ليعلن عن نفسه أنّه الناطق بالكلمات الإلهية ، فجعل نولدكة من كلمة (قُلْ) إحدى ابتداعات النبي ,لأنّها(( لا توجد أبدًا في السور الأقدم ، والتي توضع قبل العبارات المحددة لاستعمال الناس المتواتر في سورة الإخلاص 112 وسورة الفلق 113 وسورة الناس 114 ، لكنها لا ترد في سورة الفاتحة ولا يمكن أن يعتبر من قبيل الصدفة في هذا السياق إذا كثر لاحقًا وبشكل غير عادي استعمال تعابير معينة لكلمة"أوحى" لا تردّ إلَّا متفرقة في الفترة المكيَّة الأولى))()
إذن, من الذي يتكلم هنا: الدشتي أم سروش أم الحلو ؟.
نرى أنَّ أصواتهم معًا اندمجت بصوت نولدكة ، أو لنقل إنَّ ذاتًا واحدة تشظّت هنا ثلاثة شظايا ، تلكم هي ذات نولدكة التي تقاسمها هؤلاء الثلاثة...
الخاتمة
إنّنا إزاء خطاب استشراقي يصوغه مسلمون يعون جيّدًا ما القرآن الكريم، وما مكانته, و ما يحتويه من ألقٍ أسلوبي، فهم يعهدون أساليب العرب و أعرافها في القول و طُرُقها في بناء الخطاب، فليس الالتفات البلاغيّ بالفنّ الملبس أو الغامض أو الإشكالي الذي يستحق هكذا لغطًا, غير أنّهم يقحمون على فكرهم أشياء يأباها كلّ من قرأ القرآن، وكلّ من لديه أدنى صلة بالعربية, وهم في ذلك يتشّبهون بمن يقرأ القرآن من خارج الثقافة العربيّة ,ممّن لم يعهد هذه اللغة, ولا هو على معرفة بأساليبها وأعرافها الكلامية. جدير بهم، إذن، أنْ يُسَمَوا بالاستشراق الإسلاميّ.
إنّ آليات تحليل كثيرة في النظرية النقدية المعاصرة لا يمكن إقحامها على القرآن الكريم,فالقرآن كلام معجز غير كلام البشر,أمَّا الإصرار على تطبيقها فأمرٌ أقلُّ ما يقال عنه : مكابرة تكشف عن أنَّ المفاهيم وآليات التحليل الحداثية ليست مجرّد تقنية أو أداة فنيّة، نعم لعلّها طُرحت بدءًا لتكون أداة عون للتحليل البنيوي، ولكنّها مع الوقت أخذت تؤدّي وظائف أخرى,من بينها أنسنة النصّ الإلهي.
مصادر الدراسة ومراجعها
*القرآن الكريم
-اجتماعية اللغة العربية(عن شجاعة العربية و شجاعة أهلها.) Details<posts<https://portal.arid.my
-أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية(تأسيس نحو النص)محمد الشاوش,المؤسسة العربية للتوزيع,تونس,2001م.
-الإعجاز البلاغي في الخطاب القرآني(الالتفات أنموذجًا),د. مازن موفق صديق الخيرو, مكتبة دار البيان,دمشق,2010م.
-إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم, للحسن بن أحمد بن خالويه, دار ومكتبة الهلال,بيروت,1986م.
-البلاغة والتطبيق, د.أحمد مطلوب, و د. كامل حسن البصير,ط4,مطابع بيروت الحديثة,2015م.
-التأسيس اللغوي للبلاغة العربية قراءة في الجذور،د.عبد الجليل هنوش،دار من وز المعرفة للنشر والتوزيع،عمان،2016.
-تاريخ القرآن, تيودور نولدكه, نقله إلى العربية وحققه جورج تامر,ط1,مؤسسة كونراد-أدناور,بيروت,2004م.
- تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي ,د. يمنى العيد,ط3,دار الفارابي, بيروت, 2010م.
-23عامًا دراسة في السيرة النبوية المحمدي, علي الدشتي, ترجمة ثائر ديب,ط1,رابطة العلمانيين العرب- بترا للنشر والتوزيع,دمشق.2004م.
-الخصائص, لأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي,ط4,الهيئة المصرية العامة للكتاب, د-ت.
- الخيال العلمي الاجتماعي، رايت ميلز،،ترجمة أ.د. عبد الباسط عبد المعطي، و د عادل مختار الهواري، تقديم أ.د. سمير نعيم أحمد، دار المعرفة الجامعية،١٩٨٦م.
- درس السيميولوجيا,رولان بارت,ترجمة عبد السلام بنعبد العالي,تقديم عبد الفتاح كليطو,ط3,دار توبقال,الدار البيضاء,1993م.
-رسالة في اللاهوت والسياسة،باروخ سبينوزا,ترجمة وتقديم حسن حنفي,ط1,دار التنوير,بيروت,2005م.
-السرد والاعتراف والهوية,د.عبد الله إبراهيم,ط1,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,بيروت,2011م.
-شرح المعلقات السبع,لعبد الله الحسين بن أحمد الزوزني,لجنة التحقيق العالمية,د.ت.
-الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز,ليحيى بن حمزة العلوي,دار الكتب العلمية,بيروت.د_ت.
-عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح,لأحمد بن علي بن عبد الكافي أبو حامد بهاء الدين السبكي,تحقيق عبد الحميد الهنداوي,المكتبة العصرية للطابعة والنشر.د-ت.
-غرر البيان من سورة يوسف_عليه السلام_في القرآن,أحمد محمود خليل الشوابكة,تقديم ومراجعة:أ.د أحمد نوفل وآخرون,دار الفاروق للنشر والتوزيع ,عمان,2010م.
- القرآن والتوراة والإنجيل ,موريس بوكاي,ترجمة الشيخ حسن خالد مفتي الديار اللبنانية,المكتب الاسلامي,بيروت,1990م:18.
-الكتاب المقدس(العهد القديم والعهد الجديد)التعريب والجمع التصويري والمونتاج شركة ماستر ميديا,القاهرة,د-ت.
-كلام محمد رؤى محمد,عبد الكريم سروشت,ترجمة أحمد الكناني,دار أبكالو,2021م.
- لمن يجرؤ على العقلانية،قراءة بديلة في الطريق نحو دين إنساني ،د.ميثم الحلو,ط1,سطور للنشر والتوزيع,2016م.
- المبدأ الحواري ميخائيل باختين، تزفيتان تودوروف,ترجمة فخري صالح,المؤسسة العربية للدراسات والنشر,بيروت,1996م.
-المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر,لضياء الدين بن الأثير,تحقيق أحمد الحوفي و بدوي طبانة,دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع,القاهرة.د-ت.
-المتكلم في السرد العربي,أعمال ندوة بجامعة منوبة/كلية الآداب والفنون والإنسانيات بتونس, بإشراف محمد خبو و محمد نجيب العمامي,,2011م.
- الوحي من خلال مصنفات السيرة النبوية قديمًا وحديثًا،محمد النَّوي,مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع,الرباط,2018م.
تعليق