مقدمة
بسم الله بداية كل أمر ونهاية كل خير، ثم الصلاة والسلام على محمدٍ وآله وصحبه، وبعد:
فيطيب لي أن أقدم بين يدي القاري عملاً روائيًا من ثلاثة عشر مشهدًا، وهي رواية في طابعها العام اجتماعية، تناقش العديد من القضايا الهامة من خلال شخصية بطل الرواية (سامي)
ومن تلك القضايا:
- الدين لا يتعارض مع النجاح السليم في الدنيا.
- الفهم السليم لقواعد الحياة وتطبيقها السليم والصحيح يؤهل المرء لسعادة الدارين.
- عمل المرأة بين التأييد والمعارضة.
- ضرورة تطوير الذات بما يناسب العصر، والبعد عن الانخداع بالبارق من الأمور.
- قضية الوظيفة والمستوى الدراسي.
- القراءة والتوظيف الصحيح لما يُقرأ.
وأرجو من القارئ عندما يقرأ شخصية الرواية لا يقف عند الإطار الخارجي منها، بل روعة الشخصية في البُعد الداخلي للشخصية من تعقيدات وتصادمات بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون، وأظنها موجودة بيننا فكم من أناس لديهم أحلامهم وحادوا عنها أو ضاعت وسط زحام الماديات، وكم من أناس سلكوا الطرق المعوجة ظانين أنها موصلة إلى مرادهم.
هي رواية اجتماعية بصبغة دينية ويظهر هذا مع اكتمال المشاهد والفصول كما هو ظاهر في محور هام وهو قضية الرزق والسعي.
أقدم لكم روايتي (رحلة الصدفة) وأسأل الله أن تحظى بالإعجاب
(1)
وقف متفحصًا الكتبَ التي تعجُّ بها حجرتُـه، وقد انشغل بقراءتها يومًا بعدَ يومٍ، ثم هبّ واقفًا: وجدتُها ... وجدتها ...
بطلنا في العقد الرابع، أقنى الأنف، مفتول العضلات، بادرته الشيخوخة بخيوطها البيضاء، كان مغرمًا بقصص الأبطال وتراجمهم، هؤلاء الذين حققوا أنفسهم وكسبوا المال الوفير، كان مغرمًا بمقولة العالم شارل نيكول: " إن الصدفة لا تُقبل إلا على هؤلاء الذين يعرفون كيف يُغازلونها ".
قال لنفسه:
- لماذا لا أصنع مثل هؤلاء أبطال القصص الذين سافروا وضربوا في الأرض بحثًا عن المال، يأكلون من خشاش الأرض، ويشربون من حُشافة الكأس، يُغنيهم حُتامة الطعام عن ذِلة السؤال، يتباهون بِطوي البطن وقلة الفُراثة فيها، يغمسون الخبز بالهواء.
أخذ بطلنا يذرع حجرتَه، مجيئةً وذُهوبًا، وينظر من خلال نافذتها على الشارع المزدحم بأناسٍ تنوعتْ مشاربُهم واختلفت مقاصدهم، منهم من يمشي وكأنه يلامس السماء برأسه المليئة بالزهو، ومنهم من يمشي وقد انحنى ظهره وكاد وجهه يلامس وجه الأرض الساخن، فقد وقفت الشمس في كبد السماء لا تحيد عنها في شهر اشتد حره.
كان يسمع زوجته وهي تُسكت وليدها حتى لا يزعجه بصوته، فكم كانت حريصة على توفير الهدوء والراحة لزوجها قُرة عينها.
قطع تفكيرَه طرقاتٌ متوالية على الباب، فقال بصوت عالٍ: من الطارق؟ قلتُ لكم ألف مرة بألا يزعجني أحد عندما أعتكف في حجرتي!
صوت من الخارج:
- أنا فيروز، اسمح لي بدقيقة من وقتك، فمعي رسالة من أخيك قد أتت على التوِ.
- قال بطلنا متبرمًا: تفضلي.
دخلت فيروز زوجة بطلنا، وكان الشباب لم يفارقها بعدُ، تصغره بسبع سنوات، غضّة بضّة ممشوقة القوام، جميلة العينين، رسم على وجهها رحمة الله التي قسمها على عباده فاختص بها الجزء الأكبر.
قالت في صوت خافت:
- هذه رسالة من أخيك أتت الآن، تفضل.
مدّ بطلنا يدَه سريعًا، وتناول الرسالة وفضّها بيدٍ عجلى، وقرأها سريعًا، ثم ألقاها في جانب من الحجرة؛ قائلاً: مُبخت منذ صغره، أما أنا فصدق المثل فيّ " إن الدواهي في الآفات تَهْتَرس"، فقليل الحظ يستمر دائمًا هكذا في محياه إن لم يُصاحبه في مماته.
فردت الزوجة:
- لا تقل هذا، فما الله بظلام للعبيد، الله يبسط الرزق لمن يشاء و....
فقاطعها بطلنا في غضب:
- إذًا أنا ممن ينطبق عليهم الجزء الثاني من الآية: ﴿ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ﴾، وشاء الله لي أن أكون ممن يضيق الله عليه رزقه ... فماذا فعلتُ؟!
فردت الزوجة في رجاء:
- ادع الله، فمن توكل على الله حق توكله رزقه كما رزق الطير، أ أذكرك بهذا وأنت في وسط هذه الكتب؟
فرد الزوج في استسلام:
- ربنا يوسع علينا جميعًا، ويهدينا.
لقد كان أخو البطل مغرمًا ليس بقصص أبطال الخيال كبطلنا، إنما عشق الواقع وفهمه، ومن يفهم الواقع لا يقع في متاهٍ، وطرق السعدُ بابه وعرف الجاهُ عنوانه، كان (سالم) أخو البطل هو الأخ الوحيد له تخرج في كلية التجارة وعمل بالتجارة وكثرت أسفاره، كان أصغر منه بعشر سنوات، ولكنه حقق ما لم يحققه أخوه.
دخل الحجرةَ ابنُ بطلنا وكان يناهز السابعة من عمره، أقرب الشبه بأمه وبتفكيرها، اعتاد على ألا يدخل حجرة أبيه إلا إذا كانت مفتوحة الباب، وانشغل الأب بعمل غير القراءة، وكان في هذا الوقت واقفًا مع أمه فأسرع الولد يقول لأبيه:
- أبي، البرنامج الذي نبّهت عليّ أن أخبرك بموعده، ها هو ذا بدأ.
بطلنا قد بدأ " رحلة الصدفة " بحثًا عن المال وقد سمع كثيرًا عمن كسبوا جوائز من مسابقات تُعرض على شاشات التلفاز ، ورأى بعينيه شخصًا كسب جائزة مالية كبيرة – فقط – لأنه أجاب عن سؤال : أيهما يدور حول الآخر الشمس أم الأرض ؟ ، ومما زاده دهشة تلك السيدة التي فازت بسيارة فاخرة ؛ لأنها اشترت أكياسًا من مسحوق غسيل معلن في المسابقة ، وغير ذلك مما جعل بطلنا يشمّر عن ساعدٍ ويعزم على أن يفوز ، فأرسل الكثير والكثير من الخطابات والبرقيات ، وبدأ يسير في جميع الطرقات والمتنزهات ؛ لعله يصادف أحد هؤلاء الذين يوزعون الجوائز ، وساعده على ذلك أنه قاطن في وسط العاصمة .
ولكنه في كل مرة يعود بخُفي حُنين، حتى لامس قلبَه اليأسُ، وشعر برياح الإحباط تخالط أنفاسه، وسأل نفسه: كيف يحالفه الحظ وهذا الفقر آخذ بتلابيبه، ويرافقه في كل مكان.
(2)
" قيراط حظ ولا فدان شطارة "، مَثَلٌ قرأه بطلنا صباح اليوم التالي في إحدى قصصه، فَطَوى كتابَه وعكف على كتابة بعض حلول المسابقات المعروضة في التلفاز والمذياع والصحف مرةً ثانية، بعدما محى هذا المثلُ بأسَ قلبه وحلّ محله رجاء في الفوز، ولم يكتف بالمسابقات بل أخذ يرسل أغطية المعلبات المعلن عنها، وداوم على هذا العمل الذي كان شغله الشاغل قرابة شهرين متتاليين، أنفق فيهما الكثير والكثير، وكل يوم يحمس نفسه بأن الفوز قريب، وكلما سمع بفوز متسابق سَعِدَ ويشتدّ عزمه ويستمر في إرساله.
وبعد شهرين لم يظفر بأي رد، فأخذ الغضب يتغلغل في أعماقه ويدفعه دفعًا إلى عمل شيء يوفقه على الطريق المبين، فنهض فجأة وفي عينيه فكرة تومض كوميض البرق، أخذ يُهرع نحو الباب ولم يشعر بأنه ركلَ ابنه عندما حاول الابن أن يجري نحوه.
خرج قاصدًا (الأتوبيس) المؤدي إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وكان الجو قد تلطف واعتدلت حرارته، ولكن البقعة التي تبقى دائمًا عالية الحرارة هي الأتوبيس، فقد تُخمد النارُ أو تصبح بردًا، ولكن أنّى لهذه البقعة أن تشعر وأنت فيها بنوع من البرد.
أخيرًا ظفر بطلنا بكرسي فأسرع يجلس عليه، ويا لسوء حظه جلس على حديدة ناتئة من الكرسي آلمته بشدة وكاد أن يفقد وعْيه، وعندما جمع وعيه.. قرأ إعلانًا في جريدة مَن يجاوره: " حظك في الكسب معنا مضمون "، فاستشاط بطلنا غيظًا وطلب منه أن يأخذ هذه الصفحة التي بها الإعلان، فاندهش الراكبُ من طلبه وأعطاه الجريدة بأكملها، وشكره بطلنا وقام من مكانه ونزل في محطته.
وقف أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون وصعد سلالمه سريعًا، ودخل غرفة الاستعلامات وسأل الموظف المختص عن المسؤول على الإعلانات المبوبة التي تذاع في التلفزيون، فسخر منه الموظف، فما كان من بطلنا إلا أنه لكزه وسبّه، فأنذر الموظف رجال الأمن بالمبنى فحضروا في الحال وشاهدوا الشجار، فامسكوا ببطلنا وطردوه من المبنى.
وقف بطلنا أمام المبنى يسب ويلعن، في هذه اللحظة وقفتْ سيارة سوداء فاخرة، خرجت منها سيدة في عُنفوان شبابها ترتدي زيًا زادها فتونًا، شقراء يميل لون عينيها إلى الزرقة، قِدُّها كغصن البَان، منتفخة الوجنتين، يفوح منها عطرٌ نفّاذ، فحدّق فيها بطلنا وعرف أنها هي تلك المذيعة التي رآها في إحدى المسابقات تُهادي شخصًا جائزةً ماليةً كبيرةً، وقد ظهرت آنذاك فاغرة الثغر، كثيرة التلدُّد والتودُّد والتمرُّر على شعرها الأثيث.
اتجه نحوها مسرعًا، قائلاً:
- أتسمحين لي.
وقفت المذيعة تنظر إليه في استنكار ولم تنبس ببَنت شَفه، إنما اكتفت أن أشارت إلى أحد رجال الأمن العالقين أنظارهم عليها، فأسرعوا في الحال ملبين إشارتها، ونفذوا ما طلبت منهم، فلم يجد بطلنا نفسه إلا مُلقى به في الشارع، وأخذ بطلنا يصرخ: أريد مسؤولاً أسأله وأشكو إليه.
فرد أحد رجال الأمن:
- عندك ورقة دوّن فيها ما تريده، وهناك صندوق مكتوب عليه شكاوى ومقترحات نفض ما عليه من تراب وغيره، وضع ورقتك فيه، أتظن لأي فرد القدرة في اقتحام المبنى؟! ألم تسمع عن القنوات الشرعية؟!
سار بطلنا في الشارع يَعْبُرُ هذا إلى ذاك، ومن هنا إلى هناك، حتى وصل إلى مسجد في أحد الأحياء الكبيرة ووجد أمامه رجل مرقع الملابس مغلق العينين وكأنها لم تحفر لهما مكانًا في صفحة الوجه، ربط إحدى يديه برباط لفّه حول عنقه، مادًا اليد الأخرى نحو المصلين الخارجين من المسجد، يدعو ببعض الكلمات التي تسعد الناس من توسيع رزق وعلو مكانة وبقاء ابن وصلاح زوجة.
وقف بطلنا يترقب هذا الرجل فوجد المال قد انثال عليه من هذا وهذا، والرجل يدعو ويضع يده في جيبه ثم يخرجها وهكذا في حركة سريعة ديناميكية، وقدّر بطلنا ما كسبه هذا الشحاذ بالمال الكثير، وفجأة لمعت في ذهن بطلنا فكرة، واحمرت وجنتاه وصرخ في نفسه: " وجدتها وجدتها "، ولندعْ المسابقات جانبًا، ونظر إلى هيئته فوجدها قد تعفرت بالتراب من كثرة مشيه، ووجد الإرهاق والإجهاد قد علا سحنته، وها قد اقتربت صلاة العشاء، والظلام ضرب أركانه على الكون ولم يره أحد، وعدّ هذا من حسن طالعه.
في هذا المسجد حضر محافظ المدينة، وعدد كبير من رجال الأمن وكبار المختصين؛ لافتتاح مستشفى خيري ملحق بهذا المسجد، جلس بطلنا بجوار المسجد واتخذ ركنًا منه، وحضر في ذهنه أدعية كثيرة تمخُر عُباب النفس وتشق غُبار البخل.
وآنَ خروج المصلين من المسجد، وآن لبطلنا أن يتمتم حينًا ويعلو بصوته حينًا بهذه الأدعية، التي جذبت نحوه الكثير مما جعله يُشحذ قريحته أكثر وأكثر، وعدّ هذا من قبيل الصدفة التي لا بد من الاستفادة منها.
ويا لسوء حظه! عندما رآه بعض أفراد رجال الأمن المكلّفون بحماية المحافظ ومن معه، فاقتربوا منه وظل بطلنا يدعو، فقال أحدهم:
- يا هذا، من أجلسك هنا، وما ذا تعمل؟
فرد عليه بطلنا بأدعية تعلي من شأنه وتنصره على من يعاديه، ويخلصه الله من أي ظلم، ويفرج عنه أي كرب، فظن رجل الأمن بأن الرجل يسب حالة المدينة وسياسة محافظها.
فأمر رجل الأمن بحمله في سيارة الشرطة للبحث في موضوعه في مكان أفضل من الشارع وأهدأ، يوجب معهما اعترافات من هذا الرجل المتسول المشاغب، وما هي إلا لحظات حتى خرج المحافظ ومن معه، فانشغل رجال الأمن بتمهيد الطريق وإبعاد الزحام، لم ينتبهوا إلى هذا الرجل المتسول الذي اختلس الفرصة وقفز من السيارة وجرى من شوارع جانبية، لا يلتفت وراءه حتى وصل إلى بيته، وطرق الباب في حركة هستيرية ففتحت الزوجة الباب مسرعة، وما أشد دهشتها وقلقها! عندما رأته في هذه الحال الرثة وعلى هذا التعب الشديد.
دخل بطلنا بيته وأغلق وراءه الباب، وظل واقفًا وراءه يتمتم بأدعية، ثم ارتمى على كرسي قريب منه، يعلو صدره ويهبط في حركات متوالية سريعة، ينظر هنا وهنا ثم جرى إلى مكتبه ونظر من نافذتها على الشارع يراقب أحدًا تبعه، وعندما اطمأن سقط مغشيًا عليه.
انطلقت زوجته عليه، ودعت أحد الجيران لحمله معها على فراشه، وأسرعت في إسعافه، وبعد ساعة من الغيبوبة استفاق بطلنا منزعجًا يصرخ:
- اتركوني، اتركوني، لماذا أمسكتم بي؟ دعوني!
جرت الزوجة عليه قائلة في خوف:
- ماذا بك يا زوجي وأين كنت منذ صباح اليوم؟ أقلقتنا عليك، ومَن هؤلاء الذين يؤذونك.
لم يجب بطلنا فقد كان مجهدًا، واستلقى على ظهره مرة أخرى بعدما اطمأن أنه في بيته، وأغلق عينيه واسترخى.
وفي صباح اليوم التالي استفاق بطلنا وهو يصيح:
- وجدتها وجدتها.. هكذا يكون.. هكذا يجب أن أفعل، أين ذهبت عني هذه الفكرة الجهنمية، هكذا السعد يطرق على أبواب النيام وفي لحظات سكناتهم، والسبب أنني أغازل الصدفة حتى تستريح إلى مغازلتي، وتأتي راضية طيعة.
أسرع إلى ورقة وكتب فيها:
زوجتي الغالية
السلام عليك وبعد،
أردت أن أخرج إلى تلك الدنيا التي سمعت وقرأتُ عن أناس فيها قد نالوا منها حظهم، وأخذوا من معينها ما شاءوا أن يأخذوا، فلا تقلقي عليّ سأبذل قصارى جهدي لأرى هذا المعين وأحصل على تلك الوسيلة التي استجلب بها حظي، انتظريني بعد سبعة أيام من اليوم.
حبيبك الذي لن ينساك
سامي
وبعدما كتب بطلنا هذه الرسالة ، خرج من البيت دون أن يشعر به أحدٌ ، وذهب إلى عمله في دار الكتب ، فقد كان أمينًا بها ، كثيرًا ما وجده أصحابُه معتكفًا على قصص وروايات أولئك الأغنياء ، ونبهوه أكثر من مرة أنها خيالات كاتب ، إنما السعد والرزق بيد الله كتبه الله على ابن آدم وهو ما زال جنينًا ، فالله يهب المرء وليس عند المرء حيلة كالموت ، وما على الإنسان إلا الجد والسعي ، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، ويذكروه دومًا بقوله تعالى : " ولا تَمُدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " .
وكان يرد عليهم ساخطًا:
- ولماذا نبقى نحن تحت الصفر؟ يشق الجوع بطوننا، ويصيب حلقَنا غُصة ُ الصدى، وهناك مَن انتفخت بطونهم وشكت من اتساع عرضها.
فيرد عليه أحد زملائه:
- أنت آخر من تتحدث عن هذا الشعور، فأنت الذي جلبت لنفسك هذا المصير، فزوجتك دكتورة وأقعدتها في البيت مدعيًا أن في إقعادها راحة لك، ماذا تركت لغيرك ممن لم يحصلوا على نفس درجتك العلمية؟ فأنت خريج كلية إعلام، ألم تتعلم أن اليد الواحدة لا تصفق؟
فيرد بطلنا في غضب:
- نعم، أنا الذي أمرتها بذلك، وقد لبّت أمري ومنذ ذلك اليوم زاد حبها في قلبي، وتعلق في عنقي نحوها واجبٌ وحقٌ لابد أن أؤديه نحوها.
فيرد الزميل:
- مركب الحياة لكي تمخر ضوائق الحياة يلزم التجديف بجدافي المركب معًا، وليس بجداف واحد، وإلا عرجت وعوجت عن الجادة.
- لماذا لا تقل: إن المركب لا يسير إلا برُّبانٍ واحد وإلا غرقت.
- إن كان هذا ظنك فيكفيك من الغنى شِبع ورِيّ، وإلا فالسماء لا تمطر ذهبًا.
- لم أطلب من أحد إحسانًا، هأنذا تخرجت في كلية الإعلام بتقدير جيد جدًا، وماذا أعمل؟ هكذا الدنيا فلماذا تطلب مني أن أحسن التفكير وهي معي لا تحسن العطاء والتقدير.
كل هذا دار بخلد (سامي) وهو متجه نحو مكتب مديره، يقدم له طلبًا بالسماح بإجازة لمدة أسبوع من عمله. نظر المدير إلى الورقة شزْرًا قائلاً:
- الأستاذ، طالب إجازة، تظنها " تكيّة الوالد "، ألا تعلم أننا على مشارف دخول المدارس والجامعات، امسك يا أستاذ، ورقتك واذهب إلى عملك، الإجازة مرفوضة.
فرد سامي غاضبًا مُعللاً:
- وهل بي يُقام " ميزان " القراءة، وبدوني يختل.. موظفو المكتبة كثيرون أكثر من الوافدين عليها.. وقُراء المكتبة معروفون بالاسم.. ونوعية الكتب التي يستعان بها في القراءة معلومة محددة.. وغيرها غير موجود.
وظل (سامي) يحاور مديره إلى أن وقّع على الورقة، وأمر بتحويلها إلى شؤون العاملين للإتمام؛ فاتجه بطلنا إلى المكان المشار إليه، ودخل غرفة شكت من كثرة موظفيها، وبكت من كمية ما فيها من الأتربة وخيوط العنكبوت ضاربة في كل ركن، تحتاج إلى نفس ثائرة على الركود، متحركة نحو أبسط أنواع النظافة والجمال.
(3)
وقف سامي أمام أحد الموظفين الأقرب من الباب وكان أسنهم سنًا، وسأله عن المكان الذي يقدم فيه طلبه فأشار بحركة ميكانيكية نحو المكتب المجاور، فذهب بطلنا نحو المشار إليه، فإذا بذاك الموظف ينظر إلى الطلب المقدم متأففًا وكأنه قد انبعث منه ما لا يحمد عقباه، فأشار إليه بأن يتمهل إلى أن ينتهي من اتصال هاتفي، وبعد مرور أكثر من نصف الساعة – ولا عجب – فهو لا يتكلف من اتصاله إلا سعادته بأنه أوقف صفًا كاملاً في انتظار الموافقة على معاملاتهم.
وبعدما أنهى اتصاله رفع عقيرته قائلاً:
- من صاحب هذا الطلب؟
- معك سامي أمين الفرع الثالث من المكتبة العامة.
- وماذا تريد يا سامح؟
- (رد البطل مصححًا الاسم) بل سامي.. رجائي بأن تأشر على الطلب بالموافقة من جهتكم على إجازة لأسبوع.
- (هازئًا) طلبك ليس عندي.
- (احمر وجه سامي وعلا صوته) أبعد هذا الانتظار.. طلبي ليس عندك، فأين المختص؟
- اسأل عن الأستاذ فتح الله.. فهو المسؤول.
- وأين أجده.
- (غاضبًا) أطلت في الكلام.. وراءك صف من الطلبات ... جنّب يا محترم؛ إذا تكرمت.
- (غاضبًا) أنا الذي أطلت في الكلام.. وتراني الآن شغلتك عن عملك؟!
صوت من الصف الذي خلفه:
- يا سيد، لا تعطلنا.. اخرج من الصف.. وراءنا أعمال.
(فتعالت الأصوات) بين مؤيد ومعارض.. فقام الموظف ذاك الذي كان قريبًا من الباب ونادى على سامي بحزم ليوقف هذه الأصوات..
وعاد الهدوء وأقبل سامي على هذا الموظف وسلمه طلبه:
- هات يا أستاذ طلبك، ومع السلامة.. سأتولى الانتهاء منه وسنرسل إخطارًا بالموافقة إلى مقر عملك.
هكذا وبعد عناء، تمت الموافقة على الإجازة، وقد مضى نصف اليوم، فسار في طريقه؛ باحثًا عن أول صدفة تواجهه ليغتنم منها أول كسب مالي، فسمع وهو سائر صوت حاوٍ، وحوله أناس ملتفين تكاتفت أكتافهم كبنيان مرصوص.
شق بطلنا الصفوف حتى تمكن أن يقف في أول الصف بشق الأنفس، فرأى بعينيه ألعاب ذبك الحاوي وقدرته على فك الحبال، وتلك النار التي تخرج من فيه، وقدرته على إخراج أشياء من شيء، فأُعجب به أشد الإعجاب وقطع هذا الإعجاب صوت الحاوي الجهوري:
- صلوا على النبي.. شاركونا يا حضرات، فتح عينك أنت وهو، معي المفاجأة العجيبة.
ويخرج من بين الصفوف من يكرر نفس كلامه بنفس الصوت:
- فتح عينك أنت وهو.. معنا مفاجأة الحاوي العجيبة.. جلا جلا .
فرد الحاوي بكلام موزن:
- الذنب على من نام وسجى ** وترك الجد من بعد ما كان فهوى.
صفق للمسكين ومن مثله سما ** بإذن ربه، وصل على النبي المصطفى.
يكرر المرافق له نفس البيتين.. ثم يقول:
- فتح عينك أنت وهو، معنا مفاجأة الحاوي العجيبة.
ثم يتجه بكلامه للحاوي متوسلاً:
- أخبرهم بها يا عجيب.. فرح من هو بالحظ سعيد
أخرج الحاوي من جيبه بعض المظاريف قائلاً:
- إذا أعطاك العاطي، فلا تسألن عن السبب؛ فهي إرادة مَن لا يغفل ولا ينام، اسمع يا عبدَ الله، هذه المظاريف إنما هي حظك وعملك، وجزاء الحسنة بعشر أمثالها.
قاطعه المرافق بصوته الجهوري.. وهو يطوف حوله بشكل دائري:
- وضح كلامك يا حاوينا يا عجيب، ولا تكذب فالكذب ليس له طبيب.
- خلاصة كلامي.. في هذه المظاربف رزق الله وخيراته من المال الوفير بشرط، على قدر ما تعطيني من مال في جيبك.. بقدر ما تجد الضِعف مباشرة في هذه المظاريف العجيبة، فمن أعطاني عشرة نال عشرين ومن أعطاني مئة رُزق بمئتين.. سبحانه من له الدوام.
فرد المرافق.. ابدأ بي أولاً ... وهذه أمام الناس كلهم مئة جنيه ... وسأسحب ظرف ليظهر صدقك من كذبك.
فسحب المرافق ظرفًا من يد الحاوي.. وفتحه فوجد فيه مئتي جنيه.. فصفق وصفق الجميع.. وكبر فكبر الجميع.. فلمعت في عين بطلنا فكرة.. وصرخ في نفسه وجدتها وجدتها .. ها هي فرصة المال ولن تتكرر مرة أخرى.. ووضع يده في جيبه فوجد مئة جنيه، فقدمها للحاوي الذي مر على جميع الملتفين حوله، وكل ما يأخذ مال من أحدهم يسحب الشخص ظرفًا من الظروف التي يمسكها في يده.
ثم صاح الحاوي:
- يا حضرات بعد دقيقة افتحوا المظاريف مرة واحدة تجدون فيها سعدكم ونصيبكم قدر ما أعطيتم، ومن لم يجد فليضع الظرف تحت قدميه ويرفع رأسه ويدعو الله بأن يرسل إليه رزقه كما أرسل مائدته على قوم عيسى، ونصره المؤزر على المؤمنين.
وما كاد الرجل يتم قوله، حتى حدث شجار عنيف بين رجل أسود اللون طويل الشعر رثّ الثوب، وبين ولدين في سن العاشرة يبدو على سحنهم التشرد، وفجأة انفض الجمع ولم يجد بطلنا أحدًا ممن كانوا بجواره وفتح الظرف فلم يجد فيه شيئًا، فوقف مفزوعًا مُبعِدًا عن ذهنه بأنّ الحاوي كذب عليه وعلى غيره، العجيب أنه لا يريد أن يصدق في الحاوي أنه كذاب؛ والسبب بأنه رأى ألاعيبه الجهنمية الرائعة وسمع منه تلك الكلمات النورانية الباهرة، وأصاب بطلنا الخجل في أن يضع الظرف تحت قدميه ويفعل كما وصاه الحاوي.
ولم يجد بُدًا من أن يسير هائمًا لا يدرك هدفه ولا مبتغاه، ألمّ به الجوع والعطش فوضع يده في جيبه فوجد هذا الظرف الفارغ، فوقف فجأة في حارة ضيقة لا يراه أحد، وأخرج الظرف ووضعه تحت قدميه، وفعل كما قال له الحاوي، وأخذ يعلي صوته :
- يا رب.. يا رب، انصرنا وأنزل عليّ المال كما أنزلت المائدة على قوم عيسى، والنصر المؤز على المؤمنين.
وحل الظلام.. وحلت معه خيبة ثَقل حملها وزادها ثقلاً اشتداد جوعه فهو يسير طاوي البطن على آخر لقمة أكلها مع زوجته وابنه، وتذكرهما وكادت أن ترجعه صورتهما ، ولكنه لوى عنان وجهه وكبح جماح نفسه ... وأوقف دمعة كادت أن تسقط من عينيه ، فزوجته هي كل حياته ، وهي التي كانت تساعده على كل شيء وكانت أطوع إليه من نفسه ، تعدُ له الطعامَ إذا أحس بجوع وكان لطعامها قوة بحيث أن رائحته فقط تطرد الجوع فما بالك إذا دخل في الجوف ؟! وتعد له ملابسه إذا أراد أن يذهب إلى أي مكان، وتحاوره في قضايا تشغله وكانت تعارضه في كثير منها؛ قائلة:
- ألم تقرأ ما قاله عمر بن الخطاب: " ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، إنما العاقل من يعرف خير الشرين ".
وكانا دومًا في شجار فكري، فهي ترى أن الدنيا لا تقوم على أساس واحد؛ فلابد لها من أسس متكاملة متماسكة لتقوم حتى لا نرى فيها عوجًا.
ورُسمت على وجهه فرحةٌ عظيمة عندما تذكر ابنَه الصغير وهو يداعبه عندما أراد أن يقلده بقراءة الكتب والجلوس مكانه والعبث في أوراقه.
ومن شدة التفكير غلبه النعاس، ورأى في نومه زوجته وهي تُربت على كتفه كالعادة، وتهيئ له جوًا هادئًا ليقرأ ما يحبه وتخبره بأنها واثقة من فكره وعمله.
قطع حلمه يد تهزه بشده فقام مفزوعًا، ظن أنه على سريره ونادى: فيروز!!
(4)
لم يجد بطلنا أمامه إلا رجلاً طويل القامة، شمّر عن ساعد كعود القصب، قد ظهرت تجاعيد الزمن على وجهه الأسمر اللافح من أُوار الشمس، فقال في سرعة ٍ:
- قُم يا أستاذ، صباح الخير، الشمس طلعت بنورها الجميل، يا صباح الخير، (جرنال) يا بيه.
هكذا لم يكن مستفيقه من النوم حبيبته فيروز التي أعتاد أن يرى وجهها الوضاح، وبسمة عينيها التي تطوح بهما كل هم في قلبه وتلك الكلمات العذبة التي تقضي على كآبة الحزن وقتامة الهموم.
يبدو أن زوجته لا تبرح ساكنة في قلبه ووليدَهُ الوحيد كذلك، ولكن ما سر جريه وراء رحلة أشبه بسراب في صحراء يظنه الظامئ ماء حتى إذا أتاه لم يجد إلا النصب والهم؟ فهو أقرب للمُنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، آهٍ عليه.
سمع بطلنا كلام بائع الصحف ونظر في ساعته فوجدها تقترب من السابعة، وهو ملقى على مقعد قرب حديقة في شارع عام غلب عليه النعاس، وانشغل بحلمه السعيد وانسحب من تحت قدميه بساطُ الوقت فلم يشعر به حتى أفاقه هذا الرجل، فوضع يده في جيبه وأخرج قيمة جريدة ناولها إياه، وذهب الرجل ينادي في الشارع عن جرائده ذاكرًا أهم العناوين المثيرة التي تشد انتباه الزبائن والمارين في الشارع.
فتح بطلنا الجريدة، وشد عينيه عنوان بها:
(اليوم افتتاح محلات الكشري العصري، من يأكل أكثر يكسب أكثر، شارك معنا)
فجأة لمعت في ذهنه فكرة فصرخ: وجدتها وجدتها، وصار كالطفل يقفو إثر فكرة لحّت على ذهنه، وسار يجتاز شوارع العاصمة وارتسمت على وجهه بسمة أمل للغد المقبل بكل أحلامه، ها هو يسير نحو تحقيق مبتغاه، ما هي إلا دقائق في عمر الفقر يودعه غير مأسوف عليه، وليستقبل هذا الغنى الذي يفوح منه أجمل رائحة، والذي يتزين بأجمل ثياب، ويتمنى كل إنسان أن يصاحبه في طريق حياته.
عقد عزمه على أن يأكل من الكشري في هذه المسابقة أكثر وأكثر، ولِم لا فقد خوت بطنه يوماً كاملاً ولم يأكل أي شيء من أربع وعشرين ساعة، فقال لنفسه:
- زقزقي يا عصافير بطني الجميلة، غردي وانطلقي في مروجك الخضراء الفسيحة، حدثي يا معدتي عن الجوع ولا حرج، ويا لساني آن أن تبتل بماء الورد ويفوح منك أطيب الروائح، وأنت يا جيبي العزيز الذي طالما شكوت من قلة ما فيك، وأتعبتني شكوتك، وأزعجتني وأزعجت من حولي، وسرت بسببك في ذيل القافلة، ها هو المال سيملؤك وستنتفخ، وتسكت عن شكواك وتريحني.
انتهت ساعة من مشيه وحديثه مع نفسه حتى وصل إلى المكان المعلن عنه، ووقف هناك فوجد نفسه وسط أعداد كثيرة؛ فليس هو الوحيد الذي يبحث عن رحلة الصدفة، بل وجد ما يقرب من خمسين فردًا رجالاً ونساء واقفين منتظرين وقتهم للمسابقة، والكل شحذ أسنانه وجوّع نفسه من أيام وساعات، يحلمون بفريستهم التي تكسب الكثير، وقد وضعت ورقة في مدخل المحل تبين شروط وطريقة الكسب، وكُتب فيها:
- ألا يتجاوز سن المتسابق عن الخمسين، ويكون خاليًا من مرض القلب والسكر، وتقدم لكل راغب في المسابقة أربعة أطباق من الكشري كمرحلة أولى، ومن يزد مثلها يعدُّ هو الفائز برحلة إلى إيطاليا والتجول في مصانع المكرونة هناك، ونقد عشرة آلاف من الجنيهات فورًا.
وزعت الأدوار على الحاضرين، وكان من نصيب بطلنا الدور السابع فاستبشر خيرًا، وقال لنفسه:
- صدفة جميلة أن أكون السابع، أنه رقم أحبه، وسيكون لي الظفر إن شاء الله.
شَخصت الأبصارُ على المتقدمين وبلغت القلوب الحناجرَ خوفًا من فوز أحد وضياع الجائزة على الباقي ، وكلما خرج أحد المتقدمين خائبًا لم يحقق المطلوب فرح بطلنا ولمع في ذهنه وعينيه الفوز ، هكذا واحد إثر واحدًا حتى جاء دوره ، ودخل بطلنا على المكان المخصص للمسابقة ، وأخذ يلتهم الأطباق الأربعة بكل سهولة ، وحان الوقت لوضع الأطباق الأربعة التالية ، فالتهم الطبق الأول وهو سعيد إلى اقترابه من الفوز ثم تليه الثاني وفي الثالث أحس بمغص شديد يعصر أمعاءه وغثيان شديد ودُوار ، فما كاد أن يتم الطبق الثالث حتى سقط مغشيًا عليه ، وأحس في هذه اللحظة بأن روحه قد طرقت أبواب السماء ، ووقفت أمام بارئها مذنبة آسفة على تفريطها في حق بارئها وفي حقها وحق من يعول .
(5)
نودي للإسعاف الذي حمله إلى أقرب مستشفى لعلاجه وهو في طريقه إلى المستشفى أحس برائحة زكية تجتاز المكان مُقبلة عليه، ورأى صورة رجل جميل الخِلقة ظهرت عليه الشيخوخة بخيوطها البيض، ففرح به (مناديًا وقد بدا على وجهه الحُبور)
- أبي، أعدت لتطمئن عليّ؟ فلا تقلق وطمئن أمي عليّ.
- ألم أخبرك أكثر من مرة يا ولدي أن تبتعد عن اتباع الهوى والبحث عن السراب والجري وراء الخيال الذي يفضي بك يومًا إلى الموت.
(فجأة ذرفت عين الشيخ عن دموع سخينة)؛ قائلاً:
- يا ولدي، اجعلني مطمئنًا عليك ولا تقلقني دومًا، اذهب إلى أخيك سالم وضع يدك في يده، وتعاونا معًا على العمل؛ فيد الله مع الجماعة.
وفجأة اختفت صورة الشيخ وأحس بطلنا برائحة زكية، وظهرت على ملامحه علامات الفرح عندما ظهرت له صورة امرأة تبدو عليها حنان الأم ويظهر على وجهها ملامح الجد والوقار، وتوجهت إليه من قبل أن ينطق:
- سامي، اترك ما أنت فيه، هكذا أنت منذ صغرك تبحث عن الكسب السريع، وكنت أخفي ذلك عن والدك أذكر يوم أن وقفت مع أولاد ٍ متسكعين يلعبون القُمار؟ أم تتذكر ذلك اليوم الذي تراهنت فيه مع زميل لك على القفز من خامس دور على مبلغ من المال؟ ولولا أن رأيتك لانكسرت قدمك.
وفتحت باب العمليات سريعًا فقد أصيب بطلنا بالأعور، وأعلنت الحالة الطارئة، ومن قبل أن يدخل هذه الحجرة التي عرفت بالصمت وملئت بالهيبة، وتكتنفها الدعوات والخشوع لرب الخالقين، كان مَن بالمستشفى عرفوا شخصية المريض من بطاقته التي كانت ما تزال في جيبه، واستدعوا زوجته التي وقعت على إجراء العملية.
أُلقي بجسد بطنا على سرير العمليات، وسبحت نفسه المتمردة الحائرة في ملكوت الله وانكشف له أسرار الكون، وعادت أمامه ذكريات الماضي، ويا لشدة سعادته عندما تذكر أول لقاء بتلك الفتاة التي أعجبته واشتد تعلقه بها، وكم سعدت أمه بتلك الزيجة وسكنا معًا في البيت، وعندما توفيت الأم وسبقها الأب، ترك أخوه له بيت العائلة، ورحل بحثًا عن رحلته الواقعية التي ربح من ورائها الكثير.
وانتهت العملية بخير، وكان بطلنا ما زال تحت تأثير المخدر، وجلست بجوار فراشه في حجرته التي خصصت له زوجته " فيروز"، ولقد أوصى بحجز هذه الحجرة أخوه " سالم " الذي ما علم بخبر أخيه إلا وأسرع إليه، ولقد بقت زوجته بجواره بعدما استأذن سالم في الانصراف على أن يرجع عصرًا، وكان ذلك هو اليوم الثالث من أيام رحلة بطلنا الصدفية نحو مسعاه.
غلب النعاس الزوجة فلم تشعر بأن ابنها خرج ليلعب في الشارع المحاذي للمستشفى، رأت في نعاسها زوجها عندما كان يعود من عمله بدار الكتب حاملاً معه مشتريات اشتراها للبيت، ورغم قلتها إلا أنها كانت تثني عليها وعلى ذكائه في الشراء والتدبير.
حقًا ما أجمل الحياة الزوجية! إذا كانت الزوجة باشة هاشة، عندئذٍ يشعر الزوج بأن هذه الحياة حياة هناء ورغد وسرور والعكس بالعكس.
لم يقطع حلمها إلا نداء زوجها لها وهو تحت تأثير المخدر فظنت بأنه فاق، ولكنه ظل يناديها، وينادي على ابنه سعد، ويناجيهما بأن ينتظراه فهو عائد من رحلته التي ما ذهب فيها إلا من أجلهما.
دخل دكتور المستشفى الذي وقف مندهشًا عندما رأى " فيروز"، وناداها باسمها وسلم عليها بكل وقار قائلاً:
- أهلاً بكِ يا دكتورة فيروز، ما أشد ما حدث لك من تغيير!
- أهلاً بكَ يا دكتور، أنا في أحسن حال وما هذا التغيير إلا كتغيير الليل والنهار والشمس والقمر والشباب والشيب، وهذا ما حدث لك أيضًا فقد تخرجنا سويًا، ولم نتجاوز الخامسة والعشرين، ونحن الآن شارفنا على الأربعين.
قطع حديثهما نداءات بطلنا تحت تأثير المخدر على زوجته، فقال الطبيب:
- ما أشد حب هذا الزوج لك ِ! نداءاته عليكِ لم تنته.
- سامي خير رجل رأيته، وإن كان الحظ حالفه ووجد مَن يساعده ولم تتغلب عليه بعض خواطره التي حاولت أن أناقشه فيها، لولا هذا لرأيت الآن أعظم رجل على ظهر الأرض، إنْ لم يكن هو كذلك في نظري.
وتقدمت الزوجة في حب نحو زوجها؛ قائلة:
- سامي، كان في السنة الأخيرة من كلية الإعلام، وأنا كنت في السنة الثانية من كليتي، تلاقينا معًا، وعندما انتهى من دراسته حاول أن يعمل في مجاله فلم يظفر بشيء إلا بعمل في دار الكتب، أتصدق هذا يا دكتور؟!
عندئذ أفاق الزوج، وفرح عندما رأى وجه حبيبته البشوش، أحس بأن روحه قد عادت إلى جسده بعدما غادرته، فجلس على سريره ماسكًا يدها مُقبلاً إياها في سرور، وسأل عن ابنه سعد، فالتفتت الزوجة حولها فلم تجده، فأخبرها الدكتور بأنه سيرسل من يأتي به، واستأذن وتركهما بعدما اطمأن على مريضه وتمنى له الشفاء العاجل.
وهنا تعانقا الزوجان وشرب كل من الآخر كأس خمر لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، واستنشقا معًا أرائج الحب، وسبَحا في بحر هُيام قد عمق غوره واتسع شطآه، هنالك لبّت العينُ نداء الزوجين بدموع أشد حرارة من دموع أوْبة الغريب أو التائه إلى أهله، واستجابت اليد إلى النداء فالتفّت حول العنق والكتف والخصر وعقدت العزم على ألا تفك، ولم ينفك الفم يلثم لثماتٍ متواليات لا تحصى ولا تعد، وآهٍ من تلك النظرات التي أرسلتها العين فينفطر من أجلها قلوب القُساة.
أهكذا الحب فما أجمله وما أسمى معانيه! وكأنه اقتصر على اثنين فقط بل قد اقتصر على واحد، فلقد صاروا جسدًا وروحًا واحدًا، لا تستطيع أن تفرق بينهما، أهكذا الحب ولواعجه، فما أشقى من يطفئه! وما أتعس من يستجيب لطافئه! وإن كان طافئه هو الفقر ذاته.
يقال في المثل: إذا كنتَ ريحًا فأنا إعصار، يضرب على قوةٍ تغلبُ قوةً أقل منها، فيا تُرى نضع الحب في أي كفة، والفقر في أي كفة؟
اقترب عصر ذلك اليوم وجاء أخو البطل مسرورًا من قيام أخيه بسلامة الله، وارتمى في حضنه حامدًا الله على سلامته.
كان سالم فتى طويل القامة، ظهرت على يديه علامات عمله الشاق، وعلى وجهه مخايل الذكاء مزج بين فكر وعمل، مهندم ثابت الخطى حازم القول.
جلس بجوار أخيه يناقشه السبب الذي آل به إلى هذه الحال، ولمح في كلامه بأن هذا العمل لا يصلح مع رجل تخرج في كليه الإعلام، وينتمي إلى عائلة كريمة الأصل، عالية الكعب، إنما يُقدِمُ على مثل هذا الفعل رجلٌ فارغ الذهن وَضيع الأَرُومة.
فقاطعه سامي غاضبًا:
- كفاك، وأشكرك على اهتمامك البالغ بي.
فأحس الأخ بأنه قد زاد من تجريح أخيه وبالغ في نصحه وقد مال بنصائحه إلى الاتجاه الخاطئ فقال الأخ كاسف البال:
- يا أخي العزيز، ما قصدت إلا تنبيهك بأن الحياة لها أكثر من اتجاه، وليختر الشخص الاتجاه الذي يتناسب معه ومع مركزه.
رحبت الزوجة بسالم، وأخذ ت تسأله عن زوجته وأبنائه لكي تنهي حديثهما، ولا سيما ظهرت علامات الضيق على وجه سامي.
(6)
مر عام ونجحت الزوجة أخيرًا في إقناع وزجها بالعدول عن رحلته، وتكرس جهده في عمل ذي بال، وإنْ بدأ من الصفر فلا يضر فهي واقفة بجواره مهما كانت الرياح ومهما اشتد هبوب الأحداث، وانشقت الأيام الحُبالى عن مجريات في الحسبان أو لم تكن في الحسبان.
فاعتكف بطلنا على عمل أبعد غرابة من تلك المغامرات التي عملها في رحلته، فقد مكث يجمع ويضرب أرقامًا مجموعها يصل إلى نتيجة تُعد فلكية، ففي يوم حسب أعدادًا غير مفهومةٍ السبب والدلالة ووصل إلى نتيجة غير مفهومة، وأخذ يرسم مشروعات استثمارية تجلب الربح العالي، ورسم أجمل بيت مُلئ بالورود وتَحُفُّه الأشجار والثمار وتجرى من تحته الأنهار، وحلم أنه يجري مع زوجته وابنه في ربوعه.
ما أجمل الأحلام! ولا نعيبها، فالحقيقة بدؤها حلم، والخيال كان من أهم أسس الواقع، ولكن إذا لم يتقدم الحلم بخطواته نحو خط النور كان نارًا تضطرم في جانبي صاحبه، ما تلبث أن تهوي به.
وإذا سألت عن سبب عمل بطلنا الغريب هذا، فلابد أن تتعرف على شخصية جديدة في رحلتنا وأقصد زميل عمله " السعدوي "، وهو فتى يافع أبيض الوجه، مهندم يظهر عليه مخايل الغنى وعلامات الأرستقراطية، فهو يمشي بين زملائه نظيف الملبس لامع الحذاء، دائم ارتداء النظارة الشمسية الغالية الثمن، يتخذ مِن السيجار مرافقًا دائمًا في يد، والمجلات الأجنبية في اليد الأخرى.
(السعدوي) أعطاه الله كما أعطى لكثير من خلقه حلاوة المنطق وعذوبة الكلمات الرقراقة وسحر البيان، فهذا الشخص يلقي على مسامع مستمعيه كلمات وألفاظ يخيل إليه من سحره أنها تسعى، وأنها حقيقة ثابتة فيصبح من يسمعه تحت رحمة سحره يفعل به ما شاء.
ولقد كان بطلنا معدًا ومهيأ بأن يلقى تحت قدمي الخيال ويقبل يد حلم عظيم ذي هيبة، من هنا دخل له السعدوي الذي أقنعه بأن الرزق يسعى إلى كل ذكي قادر على اغتنام فرصته، والدولة فتحت ذراعيها لمن يسعى ولا مجال لمن نام واستكان.
قال له السعدوي مرة:
- أريد أن أسألك عن قضية تشغلني، وخاصة أنت رجل لك صلتك بالكتب والعلم والدين.
- تفضل، وعلى قدر علمي أجيبك.
- أتسمع عن تلك الأرصدة التي ترصد لمن يشترك في شركة عالمية تدعى " فوكس "؟
تعجب بطلنا من اسم الشركة وردده أكثر من مرة ثم سأل:
- وما نوعية هذه الأرصدة التي تتحدث عنها؟
- لا تقاطعني، وأوضح لك المسألة، هذه الشركة تسجل عدد سبع أسماء في ورقة، وتسجل في أخرى عدد سبعة، وهكذا.. وكل فرد من هؤلاء يدفع مبلغًا وعلى حسب المبلغ يكون ربحه ورصيده، وذلك في غضون أشهر، فما رأيك؟
- لم أفهم كثيرًا مما قلت.
ابتسم السعدوي، وقام من مكانه متجهًا نحو مكتب وفتح درجًا أخرج منه سيجارته الغالية، وأشعلها وأخذ نفسًا عميقًا منها، ثم أخرجه بهدوء؛ قائلاً:
- يا عزيزي، العالم كله الآن يسير بنظام البورصة والأسهم، وهذا النظام الذي قدمته هذه الشركة العالمية ... إنما هو نظام مصغر من البورصة، وعلى فكرة ... لي زملاء كسبوا بعد ثلاثة أشهر فقد عشرة آلاف دولار، بعدما دفعوا ثلاثمائة دولار ليسجلوا أسماءهم وكأنها رسوم إدارية فقط.
- يا له من ربح كبير!
- ولذا أسألك عن هذا الربح أيعدُّ من المال الحلال؟
لعبت الفكرة في ذهن بطلنا المغرم بمثل هذه الأفكار السرابية، ولمعت في ذهنه فكرة بارقة وصرخ في نفسه: " وجدتها وجدتها "، وأحس السعدوي بأن فكرته أصابت مقتلاً عند بطلنا، فاتجه بوجهه نحو الجهة الأخرى وأخذ يدخن، فقام بطلنا من مكانه وجلس أمامه وهو مستمر في التدخين ويلقي ما يخرج من فَيه في وجه بطلنا الذي أخذ السحر يخضعه ويسلب إرادته.
قال بطلنا:
- وكيف لي أن أشترك في مثل هذه الأسهم؟
- أمعك المبلغ؟ جهز نفسك وأنا أدلك.
- أنا واضع في البنك ما يعادل الثلاثمائة دولار، اسحبهم حالاً، وتقدم لي باسمي في هذه الشركة.
- (هامسًا) اجعل كلامنا سرًا ولا تخبر أي أحد؛ فالسعد طرق بابك يا أبا السعد.
- أنا تحت أمرك، من يدك هذا ليدك الأخرى.
- اسحب فلوسك، ولو زدت عليها ووصلت إلى الألف أفضل لك وأسعد لحظك.
- طيب.. سأدبر أمري.
في صباح اليوم التالي، ذهب بطلنا إلى البنك وبالفعل سحب كل ما معه بل وأخذ من زوجته ما بلغ الألف ليزداد حظه في الربح السريع وليسعد حظه.
وهو في طريقه رأى أخاه سالما، فارتبك وحاول أن يتوارى عنه، ولكنه ناداه فأقبل عليه بطلنا على مضض وقد ارتسمت على وجهه ألوان الطيف، وذابت الكلمات في فِيه، وتخيل في ذهنه بأن أخاه سيكشف سره وسيغتنم الفرصة قبله، ولن يحظى من أمره إلا الأمنيات.
ولنا أن نندهش من رد فعل بطلنا وهذا التناقض، أهناك أخ يخشى من أخيه إلى هذا الحد؟ أم أن بطلنا كان منخدعًا في خوفه من أخيه، وكان هذا الخوف كهذا السراب الذي دائمًا يبحث عنه.
أقبل سالم على أخيه متسائلاً:
- إلى أين يا أخي؟ ولماذا لم تعد تزورني أنت والأهل؟
- الحمد لله على رؤيتك، وقريبًا سأزورك، فأنا منشغل بأمور في هذه الأيام.
أحس بطلنا بذنب اقترفه عندما أخبره بأنه منشغل، وأحس بأن الأمر سينكشف، وأن أخاه سيسبقه إلى هذا الزميل وينال منه ما يبتغيه.
فقطع سالم تفكير أخيه قائلاً:
فما الأمر الذي شغلك عنا؟ أم أن الدكتورة فيروز ما زالت غاضبة مني؟
-(مرتبكًا) لا.. لا ... فنحن لا نذكرك إلا بالخير.
وأراد بطلنا أن يصرف أخاه سريعًا حتى يلحق بزميله، فضرب له موعدًا لزيارته، وهمّ بالانصراف سريعًا ليقابل زميله في الموعد المتفق عليه.
ويا لفرح قلب سامي عندما رأى مورد رزقه القادم وسعده المقبل وأمله المشرق وبسمة الحلم الجميل من عبسة الأيام الكوالح، وها هو الأمل يحدو ببطلنا ويدفعه نحو قدر مساق إليه ومرحلة من رحلته الصدفية.
(7)
جلس بطلنا بجوار هذا الزميل الارستقراطي يخبره بأنه سحب كل ماله، وعلى استعداد تام بأن يذهب معه في أي مكان ليظفر بهذا الحلم الجميل.
أخذ الزميل يُشعل سيجارته الفاخرة، وطلب قهوته المعتادة، مرتديًا نظارته الغالية التي دومًا تحجب عينه ولم ير إلا وهي على عينيه، وأشار بيده نحو زميله إشارة بأن يخفت صوته، وأظهر علامات الضيق على وجهه قائلاً:
- لا يصح أن يكون الكلام هكذا مفتوح وعلى المكشوف للجميع.. لا يصح.. حافظ قليلاً على السر ...
أعتذر بطلنا له وسكتا، وأنصرف كل إلى عمله، بطلنا قائم بين أرفف المكتبة يخرج منها ما يطلبه روادها من كتب وصحف وغيرها من أدوات البحث، أما السعدوي فوقف يمازح هذا ويضحك مع ذاك ويصدر نكاته السخيفة المضحكة لأنها صادرة منه، ويتمايل الجميع معه سعادة وحبورًا في سلوك مصطنع، ولِم لا فلكلامه سحر لا يقاوم.
أقبل رئيس العمل على صوت الضحكات والنكات، وما أن رأى السعدوي علت على قسمات وجهه علامات السرور:
- والله ... ما إن سمعت تلك الأصوات إلا وعلمت أن الغالي موجود.
فحياه السعدوي وقذف له بسيجار، وأشعلها له بقداحته المذهبة، وأجلسه وسط الموظفين والموظفات اللاتي تمايلن من كثرة الضحك المصطنع تمايل الأغصان وقت هبوب النسيم، في حين أن بطلنا يذرع الدار مجيئة وذهوبًا يحلم بانتهاء العمل والانفراد بزميله القاضي على شجيرات الفقر والغم في تلك الحياة التي يعيشها بفأس شركة فوكس، ينظر في ساعة يده تارة وساعة الحائط تارة أخرى، يقتل وقته بسعيه في الدار باحثًا عن كتاب لشخص أو مسلمًا إياه أو مرتبًا للكتب على الأرفف، وهو يتمتم بكلمات من وحي ذاكرته:
عجيب أمر المؤمن كل ... أمر له فيه مأمن.
سواد ليل زاله شعاع ... شمس، وقلبي للخير مكمن.
وقطع تفكيره وتمتمته زميله الذي أشار إليه بأن يتبعه، ودخلا مكتب رئيس العمل، وجلسا على مقعدين وثيرين يريحان جالسهما وشعر الجالس إذ يجلس بأن روح الكِبر تسري في أعماقه لتُخرج منها روح التواضع والمحبة بين أفراد المجتمع البائس والمعتر.
بدأ سامي الحديث:
- ما سبب دخولنا هنا؟
- (متفلسفًا) انظر فقط إلى الكراسي التي تحيطك، وهذا المكتب الضخم الفخم الذي يملأ ساحة كساحة بيتك أو تلك الرياش التي تبدو ثمينة ويندر أن نجد مثلها في بيوتنا ... آهٍ ... ما أتعس الموظف! وما أسعد هؤلاء الذين علوْا على أكتافه ليقطفوا ثماره ويلتهموها وحدهم، أخبرني – بالله – أهذا الرئيس أفضل منك؟ أتعرف أنه خريج دبلوم معلمين؟!
- (مندهشًا) أمعقول؟! أيكون رئيسنا أقل شهادة منا وهو الأعلى وضعًا، معادلة طرفيها مقلوب فلا تنتج إلا الفساد.
- هذا لا يرضي الله؛ لذا حدثتك عن هذه الشركة العالمية، توسمت فيك علامات الخير والبر، وسترى الخير العميم على يدي، ووغدًا ستتذكر ما قلته!
****
هزت الفرحة فؤاد بطلنا وأحس بأنه انطلق من أسر الفقر ، وانطلق مغردًا في مُروج الغني الفسيحة ، هكذا السعادة عندما تغمر الشخص تكممه وتغممه وتسير به كما شاءت في طرق معوجة مرة وملتوية مرة أخرى تستحيل الشخص تيسًا في عجلات الزمن يسقي ويحرث في قوم آخرين ، فإذا ما نفشت فيه غنم القوم أشاروا على التيس بالفساد ، واتهموه بأشنع الاتهامات وأشار من لا ناقة له ولا جمل بيد الحكيم إلى هذا الواقع مُذكرينه بنصائح ظنوا أنهم قائلوها ، هؤلاء الناصحون أناس أشبه بحشرات خلقت لتزعج مَن حولها بطنينها يظنون أنفسهم لهذا الواقع قد تصل أحيانًا إلى حد الجَلْد أو الرجم وإن كان هذا الحد أرحم أحيانًا من تلك النظرات التي لا تغني ولا تفيد .
في المساء طرق الباب ففتحت الزوجة، فانتقع لون وجهها فلقد كان الطارق (سالم) ومعه زوجته " مها " التي يشبه قوامها قوام فرع شجرة في زمن الخريف، وقد تدلى على كتفيها خمارها المغطى إلى نصف جسمها، ولها صوت تستطيع أن تعرفه عندما يحل الليل وتسمع صوت النقيق.
دخلا البيت وسلمت زوجة سالم على زوجة بطلنا بيد عنّ عروقُها وأنّ لحمها، ورحبت فيروز بها أشد الترحيب، وقدمت للضيفين كرم الضيافة على أحسن ما يكون الكرم، وجلس الجميع في ساحة البيت، بدأ سالم كلامه:
- عندما تأخر الوقت عن الموعد الذي حدده سامي لزيارتنا، بدرتني فكرة بأن آتي وزوجتي، والبادي بالمودة أحق بالمعروف.
- البيت بيتكم، وباب أخيك دومًا أمام الجميع مفتوح.
ويا لغرابة بطلنا الذي جلس بينهم تائهًا في سماء حلمه متمنيًا بأن ينشق سواد الليل وتشرق الشمس معلنة عن يوم جديد وبداية عهد مبعثه شركة فوكس؛ ولم ينتبه بطلنا للحوار الدائر حوله إلا بعد قضاء ساعة، عندما أراد سالم وزوجته أن يستأذنا بالانصراف، فهزت فيروز يد زوجها ونبهته، فأمسك سامي بأخيه بيد عجلى وبكلام ظاهره الحرص على دوام ضيافة أخيه، وباطنه الدعاء لله بأن ينصرفا، ففي ذهنه فكرة يريد أن يتفرغ لها ولا يشغله أحد مهما كان.
انصرف بطلنا وزوجته إلى فراشهما، وصاحبه ثالث لم يفارقه منذ أن سُحر به، وهو هذا الحلم الذي صار كظله لا يفارقه، وتحس بأن نبضات قلبه تزداد دقاته مع دقات الساعة، وهرب النوم عن جفونه والزوجة شاعرة بكل هذا، ولكنها تركته فهي تعلم بأن زوجها يكاد أن يكون من المغامرين الذين يحبون أن يجتازوا بأنفسهم تجربة الحياة، ولا يشعرون بالراحة إلا وهم يصطلون بنارها ويُروحون عن أنفسهم بجميل هوائها.
وما إن ظهرت باكورة أشعة الشمس إلا وقد قام بطلنا نشط يرتدي أفضل ما عنده وأخذ يغني ويصفر وكأنه سيقابل مع ألمع الشخصيات وأيقظ زوجته وابنه، وأخذ ماله الذي أخفاه ثم ذهب إلى عمله داعيًا الله أن يحقق حلمه وأن يظفر بهذه الفكرة التي سيضحي من أجلها بكل ما عنده.
***
- " الحمد لله "
كلمة قالها بطلنا عند وصوله إلى عمله، ورأى هذا الزميل أول الحاضرين وليس الأمر من عادته، فأسرع عليه بطلنا في صوت خافت:
- يا صباح الهنا، أنا مستعد لتنفيذ أوامرك.
ابتسم السعدوي ابتسامته المصطنعة، التي اتخذ منها ستارًا صفيقًا يُسدله على نيته الوضيعة، قائلاً:
- هيا بنا سريعًا من قبل أن يحضر أحد، ولقد اتفقت مع أحبابنا هنا أن يقوموا بأعمالنا حتى نعود.
قام بطلنا والنشوة تملأه، وقلبه قد ركّب فيه جناحين من الفولاذ؛ ليطير بهما إلى مكانه المبتغاة، وركب معه سيارته الحديثة؛ لينتقل بها السعدوي من شارع إلى آخر ليصلا إلى مكانٍ كتب عليه (الصندوق الاجتماعي) فاستفهم بطلنا من زميله عن الصلة بين البورصة بهذا المكان؟ فلم يُحر الزميل جوابًا إلا أن قال بألفاظ قليلة وفي سرعة:
- كل البنوك والشركات أولاد عم، من هنا يصلك إلى هناك.
دخلا إلى هذا المكان واتجه السعدوي مباشرًا إلى موظفة قامت عندما رأته، ونادته باسمه وكأنها تعرفه فقدمت لبطلنا أوراقًا كثيرة وأمر السعدوي من سامي أن يوقع على هذه الأوراق فأراد سامي أن يستوضح الأمور، فغمزه السعدوي بأن يخفض صوته حتى لا يسمعهما أحد؛ فينكشف الأمر فمن أخفى شمعته الموقدة استمر ضوؤها، ثم قال السعدوي في حزمٍ:
- إذا لم تَرد فأنت وشأنك إنما أنا رسول خبر وليس على الرسول إلا البلاغ، ويكفي أنني أتيت معك إلى هنا مُضيعًا وقتي؛ لحرصي على مصلحة رجل أحبة وأحب له الخير في أن يعيش كمثله في سعة من العيش.
هذا الكلام الساحر دفع بطلنا إلى أن يوقع على الأوراق الخالية من أي بيانات واضحة، ومد السعدوي يده إلى سامي طالبًا ما معه من مال وأشار بيده أن يخفيها وهو يقدمه له، وفعل سامي ما أُمر به واتجه السعدوي إلى مكان على بُعد ثلاثة أمتار من بطلنا وقد كتب عليه (خزينة - قسم السحب) وبعد قليل رجع السعدوي متهللاً يخبر بطلنا بأن السعد سيطرق بابه وأن هذا المبلغ البسيط سيحظى بأضعافه عن قريبٍ.
فرد بطلنا متعجبًا:
- لكنك اتجهت إلى قسم السحب، وكان يجب عليك أن تدع المبلغ في قسم الإيداع.
- يا لشدة ذكائك يا أبا السعد، ألم أخبرك أن من يقف على هذه الخزينة أحد أقاربي؟ العيب عليّ إذ لم أخبرك وعداك الذام.
- لا تغضب مني يا رسول الخير، إنما أردت أن أنبهك إذ لم تكن منتبهًا.
- الله يسعدك يا أبا السعد، ربنا يعطينا مثلما سيعطيك، لا تنسانا يا طيب ولا تتكبر على صحبك وحبيبك.
وهكذا استطاع السعدوي بذكائه أن يوجه الكلام إلى ما شاء له ذكاؤه أن يوجهه، وقدر أن يكسب ود بطلنا بل وجعله يستحي بعد ذلك أن يتكلم في هذا الموضوع خشية أن يغضبه، وخوفًا من أن يقابل الإحسان بالإساءة.
(8)
مرت أيام على هذا الحدث ، وأبصر بطلنا نفسه مغممًا لا يستطيع أن يبصر ما حوله ، ويقوده شخص شرس الملامح غليظ الكبد يقوده نحو هوة سحيقة ، وبطلنا يحاول أن يفلت منه فلا يقدر ويستفسر عن سبب هذه الغمامة فلا يرد عليه ، يسأله عن سبب رميه وما الذي أقترفه من أجل ذلك فلم يُحر جوابًا ، فقط يدفعه بقسوة غليظة نحو هذه الهوة ، وتظهر زوجته وهي حاملة ابنه تصرخ لأحد يستنجده فلا مغيث له ، ويلمح أخاه مبتسمًا يصفق لهذا الشخص الغيظ الكبد بأن يسرع في وضع نهاية مؤلمة للبطل ، ولكن بطلنا استطاع وبعد عناء أن ينفك من قبضة هذا الوْحش ويفك غمامته ويُهرع في الطريق الذي يشتد سواده حينًا بعدَ حينٍ ، ويرى فتية مرتدين ملابس سوداء يمتطون درجات بخارية متجهين نحوه راغبين في اصطدامه ، وأبصر من بعيد كلبًا أسودًا ضخمًا برزت أسنانه الحادة ، وأخذ يصرخ ولا منقذ له .
عندئذٍ قام بطلنا من حلمه مفزوعًا منزعجًأ يمسك برقبته، ويحاول أن يخرج صوتًا فلا يقدر، ووجد نفسه بجوار زوجته التي قامت مفزوعة على صوته ومن منظره؛ فقد جحظت عيناه وثبتهما نحو باب الغرفة، فأمسكت بيده وهزت كتفيه قائلة:
- ماذا بكَ؟ أجبني ... أرأيت كابوسًا؟
فلم يجب بل أسرع نحو الباب وفتحه وذهب إلى غرفة ابنه فلم يجده في فراشه، فصرخ وعلا صوته باسم ولده، فأسرعت الزوجة تهرع نحوه قائلة:
- ابنك ... تركناه عند والدي؛ ليلعب مع خاله وسينام هناك هذه الليلة، ولكن ما هذه الحمرة التي تغطي رقبتك، أجرحت نفسك؟!
فنظر بطلنا لنفسه في المرآة ، ووجد خطوطًا حمراء شديدة ظاهرة على رقبته وذقنه ، ثم جلس على أقرب مقعد وتنفس الصعداء وسبح وحمد وهلل ، ونظر إلى ساعة الحائط التي أشارت إلى اقتراب صلاة الفجر ، فتوضأ واستعد لأداء الصلاة ، واستمعت الزوجة إلى ما رآه زوجها ، وفسرته بما لا يفزعه رغم ظهور الفزع على وجهها ، فأثر كلامها عليه فقلت حدة فزعه وقلقه وتوتره ، وأقنع نفسه بتأويلها لحلمه حيث فسرت هذا الرجل الشرس وغيره من السواد المطبق حوله بأن سببه سهره الدائم في الآونة الأخيرة وانشغاله بأسرته ولكن الله سينجيه من الوقوع في الهوة ولن يجد إلا السلامة .
أشرق صباح هذا اليوم، وذهب بطلنا إلى عمله عازمًا على التحدث مع السعدوي، بوضوح مستفهمًا سبب تأخر هذه الشركة عن الإعلان أو إرسال أي إخطار.
وهو في طريقه إلى عمله مرّ على بنك، وصعد أدراجه الكثيرة واتجه إلى أحد الموظفين، وأخذ يسأله عن اسم الشركة العالمية التي وضع فيها كل ماله.
وما أشد دهشته إذ أخبره الموظف بأنه لا يعرف هذه الشركة، وأن البنك لم يتعامل مع شركة بهذه المواصفات فأصر بطلنا بأن هناك شركة تدعى " فوكس " وأنه ذهب إلى الصندوق الاجتماعي؛ ليكتبَ أوراقًا خاصة بهذه الشركة، وأنه عرف من هناك أن البنوك المالية كلها " أولاد عم "، فضحك الموظف قائلاً:
- يا أستاذ، لكل بنك أو مؤسسة نظامها المختلف عن الآخر، ثم ما شأن هذه الشركة العالمية – كما تخبرني – بأنها تعمل بنظام البورصة بالصندوق الاجتماعي، هذا الصندوق منشأ لإقراض الشباب والمحتاجين بضمان عملهم، واذهب إلى هناك واستفسر عن الأمر.
خرج بطلنا وقلبه كاد أن يتوقف عن نبضه، وحلمه الجميل الوردي انقلب في جنبيه نار مستعرة، وقدمه أحس بأنها تكاد أن تشل لولا تماسكه وتمنيه أن يكون كلام الموظف كذب وافتراء، وأن هذا الموظف لا يعرف كل شيء، وأن هذه الشركة شركة استثمارية عالمية، وكيف لمن عكف على المحليات أن يعرف الشؤون العالمية؟
ذهب بطلنا إلى عمله أول الذاهبين، فقد كان الوقت عطلة السنة الدراسية، وقلّت القَدم على المكتبة فكسل الموظفون عن الحضور مبكرًا، وقابل وهو هناك عامل (البوفيه) الذي أخذ يتحدث معه عن الدنيا وأحوالها، وكان كل كلام بطلنا فيه نبرة تشاؤم وخوف من الغد، واندرجا في الكلام عن الإنسان وأخيه وعدم حرص أحد على مصلحة الآخر، ثم سأل بطلنا العاملَ مباشرًا:
- وما رأيك في الأستاذ سعدوي؟
ما أغبى هذا السؤال من رجل متعلم، ولكن الخوف أشد من أن يرتب كلامه وينسقه، ودائمًا الخائف بعيدًا عن المداراة والمداهنة، وزد على خوفه نقاء سريرته وصفاء قلبه، وزد على هذا كله رغبة المتحدث في أن يسمع كلامًا من محدثه حسنًا عن السعدوي ليطرد وساوس الشك التي ملأت صدره؛ فرد العاملُ في ارتباك وترقب:
- الأستاذ السعدوي، لم أر مثله بين الموظفين، فلوسه حاضرة والنعمة ظاهرة عليه، وأولاد الناس غير محتاجين أن نزكيهم.
قال العامل هذا الكلام، ثم انصرف سريعً إلى عمله، وانتظر قدوم السعدوي، وخف إليه وأخبره بما دار سابقًا، فاستعد السعدوي وطلب من العامل أن يتصل بأشخاص حددهم له وحدد له أرقام هواتفهم.
صعد السعدوي في أرستقراطية زائفة، وسيجارته في يد، ومجلاته الأجنبية في اليد الأخرى، ودخل المبنى وتجاهل بطلنا الذي أسرع إليه يناديه، فلم يهتم السعدوي حتى جاءه بطلنا قائلاً:
- (مادا يده ليسلم عليه) كيف حالك؟
- (منشغلاً) أهلاً بك يا سامي.
- اليوم ذهبت إلى مكانٍ، وسمعت منه كلامًا غريبًا حيرني.
- خيرًا، أي مكان تعنيه؟ وأي أمر غريب تقصده؟ أسرع فوقتي اليوم مزدحم بالأعمال والمصالح.
- ذهبت قبل حضوري إلى بنك، وسألت هناك عن اسم هذه الشركة التي وضعت مالي فيها، فاستنكروا اسمها أو وجود أي علاقة بين البنوك بعضها البعض.
- آهٍ عليك ... كشفت عن شمعتك ... وبالتأكيد أقنعوك بأن الصندوق الاجتماعي للإقراض والسلف ...
- هذا ما حدث، كأنك كنت معنا..
قاطع كلام بطلنا حضور شخصين، أقبلا على السعدوي يسلمان عليه بحرارة وحب واضحين، وهما أقرب الشبه بالسعدوي؛ قال أحدهما:
- الحمد لله يا رجل يا طيب، صدق من قال: " الدال على الخير كفاعله ".
- (رد السعدوي وقد أجلسهما بجواره) أكسبت وربحت؟!
- نعم وسأسافر إلى أخي في كندا واستمتع بهذا المال الكثير.
قال الآخر:
- أما أنا فأريد منك أن تقبل هذه الوديعة وتضعها لي للمرة الثالثة لأجني منها ما أطمح إليه.
فابتسم السعدوي:
- أخبرني ماذا حدث المرة السابقة؟
- جاءني إخطار بعدما صبرت لشهور كما نبهتني، وذهبت إلى فرع الشركة في مؤسسة الصندوق الاجتماعي وسلمت على " حمدي " قريبك الموظف على الخزينة، فإذا به يبشرني ...
فرد السعدوي سريعًا وهو مبتسم:
- وما هذه البشارة؟ فأنا أعرف " حمدي "، والسعد المجلوب على يديه.
- وأي سعدٍ هذا! لقد كسبت من الوديعة السابقة ثلاثة أضعاف رأس المال، أتصدق يا أستاذ؟
وهذا السؤال كان موجهًا إلى سامي الذي أصغى إصغاء الراغب في التصديق والإتباع لا إصغاء التحقيق والتمحيص، فما كان منه إلا أن قال:
- الأستاذ السعدوي رجل يحب الخير للجميع، أنا زميله من زمن وأدرك معدنه.
وأراد بهذا الكلام أن يستميل عطفه، ويمحو ما قد ترسب في نفسه منه ومن كلامه، وأحس بطلنا أن قوله تعالى: " وإن جاءكم فاسقُ بنبأ فتبينوا ..." صدقت فيه، وها هو كاد أن يخسر إنسانًا ندر وجوده بين بشر لا يعلمون إلا حب الذات.
انصرف الشخصان، واتجه السعدوي دون أن يتكلم من مكانه إلى مكان آخر بعيدًا، وتظاهر بالغضب واحمرت عيناه وذرف بعض الدموع، وقام بطلنا إليه معتذرًا، فأشار إليه بالابتعاد حتى تهدأ نفسه لئلا تخرج منه كلمة تجرحه، فهو حريص على مشاعر الناس وإن آذوْه.
رجع بطلنا إلى مكانه وأحس بأن الأرض يجب عليها أن تنشق، ويسقط في وسطها يتوارى من سوء ما فعله، ومن ظنه برجل لا جَرم أنه لا وجود له بين البشر.
في هذه الأثناء قدم رجل ضخم الجثة شديد البنيان، قد انفرجت أسارير وجهه، وبدت أسنانه بصفرتها القاتمة، المعلنة عن شراهته في التدخين وغيره، سأل بطلنا عن " السعدوي " فأشار له عن مكانه، وبالرغم من بُعد المسافة إلا أن صوت الرجل كان مسموعًا وهو يشكر السعدوي ويشكر جهود " حمدي " الداعم للربح العالي الذي حظي به، ومن هذا المال سدد كل ديونه، واشترى البيت الذي حلم به، وأنه متحمس إلى المزيد.
رجع بطلنا إلى حُلمه وأخذ يسبح في بحره الوردي، وكلما اقترب ساحل انصرف عنه يريد الآخر، حتى يجتاز هذا البحر الذي تمنى أن يرشف كل ما فيه من خيرات، ويقذف فيه كل همومه ليبتلعها وتغيض من صدره ويفيض الخير في بيته وعلى زوجته؛ وليعوضها ما شاء به أن يعوضها فلا يد عنده قصيرة ولا عزم لديه كليل.
استفاق بطلنا من حلمه عندما سمع سلام ذلك الرجل الضخم ورآه متجهًا نحو الباب لينصرف، فأحس بطلنا بأن الوقت حان؛ ليذهب إلى السعدوي معتذرًا، الذي تظاهر بالحزن وشدة الألم من الجرح الذي أدمى قلبه بسبب شك زميله، وهذا الشك مستنكر مع الجميل الذي بذله له بدون مقابل، وما لبث بطلنا يقبل رأسه متأسفًا، ملقيًا باللوم على موظف البنك.
جاء وقت الانصراف، وتظاهر السعدوي بالحزن، ونكّس رأسه وأخرج من جيبه سجائره وأشعل واحدة منهن، ومدّ خطواته وحاول بطلنا أن يسلم عليه قبل المغادرة فلم يلحقه.
سار في طريقه إلى بيته وأخذ ذهنه يجول في سماء حلمه ، وتراءى له في حلمه بيتًا فسيحًا في وسطه نافورة واسعة ، وفي جوانبه أشجار عالية وارفة الظلال ، وقد انتشر في ثناياه ورود يفوح منها أذكر العطور ، ورأى زوجته شمسًا ساطعة تغمر البيت بنور مُحياها الوضيء ، وسمع ضحكات ابنه يلهو و يلعب في حجرته التي خصصها له وملأها بأحدث الألعاب ، وخصص له المعلمين يعلمونه البرتوكولات العالمية واللغات الحية المتنوعة ، ورأى نفسه يجري نحو ابنه وزوجته يأخذهما في حضنه بدفء الحب الأسري الذي يخبو ضوؤه وقت العوز ، ويقوى مع المال والترف .
دخل على زوجته والفرح يبدو على أسارير وجهه، فضمها بين ذراعيه، واندهشت زوجته:
- خيرًا، ليست من عادتك منذ فترة، ما الجديد؟
- من اليوم السعد سيطرق بابنا، والفقر اللعين سنتحرر منه، ففي ظله الهوان والحرمان من الدنيا الرحبة
والزوجة واجمة من حديث زوجها مع نفسه، وكأنه يتحدث مع شخص غير ظاهرٍ لعينيها واستمر قائلاً:
- وأنتِ يا أسعد وجه رأته عيناي، سأعوضكِ عن كل ما سبق، وعن كل ما بذلته لي، فقط انتظري أيامًا والبشارة مقبلة وسنغرف من بحر السعادة؛ فردت الزوجة:
- أسأل الله أن يتم خيره عليك، وأن تحقق مبتغاك، وسعادتي الحقة هي معك، أما المال فلا يجلب يومًا تلك السعادة الحقة، فهو وسيلة ونحن بحمد الله لدينا ما يسد حاجتنا، وأبي يعتبرك ابنه منذ أن رآك وكم من مرة مد يد المساعدة لنا.
هذا الكلام وكأنه لم يصل إلى ذهن بطلنا، وكأن سورًا عظيمًا حال بينه وبين كلامها.
حل المساء وكان بطلنا ما يزال في حلمة الوردي، وذهب إلى فراشه لينام، وفي منامه رأى نفس الحلم السابق ويصاحبه صوت قوي، ويد تهزه بشدة، فنهض بطلنا من نومه مخنوقًا، لا يستطيع أن يخرج صوتًا، وبعد قليل سبح وحمد ولم يجد زوجته بجواره، فنهض مسرعًا وفتح باب الغرفة فوجدها وابنه يجلسان أمام التلفاز، يشاهدان أحد المسرحيات، فجلس بجوارهما ولم ينبس ببنت شفه، وعلمت الزوجة من أسارير وجهه ما دار في ذهنه وخَلَده، فلم تحدثه عن ذلك بل جلست بجواره وأعطته بعض التسالي والنُقل ليقضي معهما وقتًا سعيدًا.
(9)
مرت أربعة أشهر على هذه الأحداث، ولم يأت لبطلنا إخطار بأي شيء، حتى صاحبه تغيب عن العمل منذ أيام، فأحس بطلنا ببعض من الخوف والقلق من الأمرين، وتراءى في ذهنه سقوط حلمه الجميل وانهيار أمله، فانزعج وتمنى ودعا الله أن تكون هذه هواجس نتيجة استعجاله لحلمه.
مشى بطلنا في الطريق تموج في ذهنه أفكار عديدة، وفجأة نادى بطلنا بأعلى صوته على شخص وقّف سيارةً ليركبها، ولكن ذهب نداؤه سُدىً؛ فلم يستجب هذا الشخص لندائه، إنه " السعدوي " فبطلنا متأكد من ذلك، ولكن لماذا لم يرد عليه؟ أو لم يسمع لندائه؟ أم أنه تعمد ذلك ولماذا؟
جلس بطلنا على مقعد في إحدى الحدائق العامة وأخذ يرتب أفكاره، أهذا هروب؟ ولماذا يهرب؟ أم هذا استعجال ... نعم قد يكون استعجالا ... فالسعدوي أكيد مشغول وهو صاحب أعمال؛ ولذلك لم يحضر منذ أيام إلى عمله.
وفي دار الكتب سأل بطلنا عن عنوان زميله أو رقم هاتفه، فلم يجد جوابًا شافيًا، وكأنه كاد دخانًا وتلاشى في الجو أو برقًا آل وانقضى، ما أشدَّ دهشته عندما علم بأنه منتدب، وليس موظفًا أساسيًا وأنه أنهى ندبه وعاد من حيث جاء، وبعد تقصي الحقائق عرف مكان عمله، فأسرع إلى هناك.
ركب الباص متوجهًا إليه، دخله مسرعًا ودخل وراءه رجل ضخم الجثة يرتدي ملابسًا تدل على أنه من الصعيد، ويصاحبه رجل آخر ضعيف البدن مرتديًا ثوبًا أبيضًا، وجلس الضخم بجوار بطلنا وجلس الآخر أمام زميله المصاحب، قال الضخم ضاحكًا بلهجة أهل الصعيد:
- ظن الرجل أنّي سآخذه بالأحضان .... وهذه أول مرة أعرفه وأراه.
فرد عليه النحيف:
- فجأة ... وجدناه أمامنا ... وقصدك أنت بالذات ... قلت في نفسي أكيد تعرفه عز المعرفة.
فرد عليه الضخم، وقد اتجه بوجهه نحو سامي يريد أن يشاركه في الحديث:
- والله ... يا أستاذ ... الناس من كثرة ما تعانيه من هموم ... صارت تشك حتى في أصابعها ... وحالتهم لا تسر عدو ولا حبيب.
هيهات أن يرد عليه بطلنا فقد هام في أفكاره ، يجمع خيوطها من هنا وهناك ، وقلبه زاد نبضه وفرائصه ترتعد هلعًا ، وفزعًا من أن تمنّاه هي تلك الهُوة التي رآها في منامه ، وأنه على وشك السقوط ، لم يفق بطلنا من أفكاره إلا عندما حانت محطة نزوله ، ولم يجد جليسه ولا مَن معه فقد نزلا قبله ، ولم يهتم بذلك ونزل ثم اتجه إلى مقر عمل زميله ، فأوقفه موظف يحمل في يديه سجلاً خاصًا بالزوار ، وطلب منه أن يذكر اسمه ورقم هويته وسبب الزيارة ، فكتب بطلنا كل ذلك ولكنه لم يتذكر رقم هويته ، فأدخل يده في جيبه ليخرج محفظته ، ولكنه انتابه الفزع وظل يقلب جيوبه باحثًا عن محفظته ، وعلا صوته :
- بطاقتي ... محفظتي ... أنا سرقت ...
فيرد الموظف (متنصحًا)
- لا حول ولا قوة إلا بالله، يا أستاذ، نحن في أول الشهر ومع الرواتب يكثر أولاد الحرام والسراق.
فقال بطلنا (خالطه نوع من الحزن والألم)
- أرجوك أخبر الأستاذ السعدوي بأنني أريده في أمر عاجل، فلا أستطيع صعود الدرج؛ فقدمي ثقيلة ولا أقدر التحرك.
ذهب الموظف ثم عاد، وقال له (دون الاهتمام بالنظر إليه)
- الأستاذ السعدوي غير موجود، خرج في مأمورية، وعندما يحضر سأخبره إن شاء الله.
خرج بطلنا وليس في جيبه حتى أقل النقود ليركب بها إلى عمله أو إلى منزله، هكذا صار به الحال بين فقدان أمل وضياع مال، دارت به طاحونة الأحداث المظلمة؛ لأنه هو الذي وضع نفسه فيها راضيًا فلا يخرج منها إلا إذا رضيت هي وأنّى لها أن ترضى إلا إذا خرج منها ممزقًا فاقدًا لكل شيء، ذلك وإن لم يفقد كرامته وقد يفقد قبل ذلك من يحبهم.
وظل يسير في الطرقات فاقد الوعي شارد الذهن متجهًا نحو عمله وقطع طريقه نحو ساعتين إلى أن كلّت قدماه ، وأحس بأن أنفاسه ستنقطع وعروقه ستمزق من شدة الإعياء ، وأخيرًا وصل عمله بشق الأنفس وارتمى بجسده على مقعد قريب منه ، وارتفع صدره وانخفض في حركات متتابعاتٍ ، وخطر في باله منظر زوجته وابنه وهو عائد بخفي حنين ، والشهر ضيف ثقيل يَجْثُم على صدر الفقير حتى إذا زاغت الأبصارُ وبلغت القلوب الحناجر يتبعه شهر آخر أثقل منه ، وهذا يحمل راية الثقل إلى شهر آخر ودواليك ؛ حتى لا يكاد يدرك الشخص أي شهر أفضل من الآخر ؟ فكلهم في الثقل والهم والغم سواء، فإذا جاء طلب من زوجته أو ابنه أو حاجة من الحاجات رأيت الفقير ينظر إليك تدور عينيه كالذي يغشى عليه من الموت، يريد أن يتلاشى فلا يملك إلا عناء عمل وثقل ديْن وعياء قول.
أصار حلم بطلنا أثرًا بعد عين، عدمًا بعد وجود، ما زال هناك خيط واهن، والغريق يتشبث ولو في قشة عساها تنقذه من غرق وشيك.
***
مرت ثلاثة أيام على هذا الحدث وبطلنا لم يَكل ولم يمل أن يسأل عن السعدوي في مقر عمله وبين زملائه، والكل لا يوفيه بجواب حازم فأحس بضيق شديد، وكأنه وضع في قفص من حديد صلد يصب من فوق رأسه حميم الغضب، يُصهر ما في بطنه والجلود، وضاقت حوله الأرض وكأنها استحالت قمقمًا، كلما أراد أن يخرج منها من غم أعيد فيها؛ وقيل: ذق من عذاب الحريق الذي صنعته بيديك، وما الله بظلام للعبيد.
تذكر قول ذلك الموظف الذي سأله في البنك ، وأشار عليه بأن يذهب إلى الصندوق الاجتماعي ليسأل ، فذهب إلى هناك سريعًا واتجه إلى نفس المكان ، وسأل عن تلك الموظفة التي أعطت له ورقًا ؛ ليوقع عليها فلم يجد لسؤاله جوابًا ، فاتجه إلى مسؤول كبير وطلب منه أن يسمع شكواه ولن يأخذ من وقته الكثير ، فأجلسه هذا المسؤول ولشدة ما رأى على وجهه من علامات القلق والإرهاق طلب له عصيرًا ليهدئ من روعه ، وأخذ بطلنا يقص عليه كل ما حدث فاستدعى عاملاً ليجلب له ملفًا ليـتأكد من الشكوى المرفوعة وبالفعل وجد كلام بطلنا كما قال ، وبدا الأمر شَرَكا محكمًا وقع فيه بطلنا بيد محتال بارع .
قال المسؤول:
- سيد سامي؛ كلامك صحيح، وهذا توقيعك على تلك الأوراق منذ أكثر من أربعة أشهر، ولكنه ورق طلب قرض بمبلغ كبير لإنشاء مشروع، وأنت وقّعت كضامن غارم، ويسدد القرض على خمس سنوات.
تورد وجنتي بطلنا، وأحس بنار في جنبيه، ودقات قلبه تتزايد، ولم يجد كلامًا، إلا أن قال للموظف المسؤول:
- وما الحل؟ دُلني على حل لأنقذ به نفسي.
- الحل الوحيد أن يتم تسديد المبلغ منك، أو من زميلك هذا، ولكن أخشى ...
فأسرع (سامي) بمقاطعته:
- وما الذي تخشاه؟
- أخشى أن يهرب إلى الخارج.
هنا أحس بطلنا بأن لهذه الكلمة يد شديدة، أخذت بتلابيبه، وتطرحه أرضًا، قائلاً:
- الهروب ... الهروب ... (وامْتُقع لون وجهه) ثم قال:
- وماذا يحدث بعد الهرب؟
- تصبح أنت المسؤول أمامنا في تسديد الديْن، وتمنع أنت من السفر.
- ولماذا أنا؟ ها هو ما زال بيننا فلماذا لا يتم استدعاؤه لتسديد ما عليه وتنتهي المشكلة؟
- لأن اللوائح لا تنظر للحالة إلا بعد الوقوع لا قبل، فلسنا فلاسفة نخمن أحداثًا، ولا أطباء نأخذ بقول الوقاية خير من العلاج.
هنا أحس بطلنا بأن الخوف يعصر قلبه، وبأن الدنيا تضيق عليه أكثر وأكثر، وأن للموت وجه بشوش يتمنى أن يحتضنه فيتخلص من وجه الدنيا القبيح، وتراءى له مكان القبر أوسع من الدنيا بما فيها.
خرج بطلنا من البنك أو هذا الصندوق الاجتماعي كأنما خرّ من السماء تخطفه الطيرُ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وأخذ يعض على أنامله ولات حين ندمٍ، وهيهات عودة ما انسكب من اللبن ، واستحال أمامه أفاويق السعادة التي هيأ نفسه بأن يشربها مع زوجته وابنه أفاويق حزن وندامة وألم ، وهذا الحلم الوردي صار شوكًا يُدمي يديه ورجليه ، وأحس بطلنا بأن يُصلبن في جذوع النخل خير له من أن يعود إلى منزله ويرى عين زوجته التي لا ذنب لها إلا أنها زوجته .
ولكن ما زال هناك أمل، ولو في حجم سِمّ الخياط ، فليبحث عن السعدوي ، ويجبره ليسدد ما أخذه حيلة ومكرًا .
(10)
أطرق في المساء على باب بطلنا ، ففتح الباب فوجد الطارق أخاه وزوجته فأدخلهما ، وما أن دخل الأخ من الباب حتى أطلق لسان العتاب واللوم على هذا الجاحد لصلة الرحم ، والمانع لزوجته من زيارتهما ، والعجب في التغيير الشديد في شخصية بطلنا الذي كان بخلاف ما هو عليه الآن ، وبطلنا يلوح بيده مرة ويمل بوجهه مرة أخرى ليسكت أخاه ، ولكنه كمذياع لا يهدأ ولا يطبق على شفتيه ولا يهتم بحال مستمعه وكيف بمستريح أن يشعر بألم من فُقدتْ الراحة عنده ، وصدق المثل العربي : " ويل للشجي من الخلي " يتحدث الأخ عن الجود وصلة الرحم ولسان حاله يكذبه ، ويُكذب الخَبَر الخُبرُ.
خرجت الزوجة مضطرة لعلمها بحال زوجها، فانشغل الأخ عن بطلنا بعض الوقت بكلام الزوجة، فقد كانت قادرة على نسج حوار وسيْره إلى الطريق الذي تشاه، وبطلنا كعادته في سرحانه وشتات ذهنه وهيامه في مهامه الفكر.
ما أشد أن يسبر المرؤ أغوار نفسه، ويفتش في أمور ماضيه ويدور في فلك شخصية يريدها قد خزنت في جعبة اللاشعور، فهو في أثناء جلوسه استحال مفتشًا، بل لجنة تقصي حقائق حول شخصية السعدوي، وحاصل جمع بحثه صفر فلا تحديد أكيد لشخصية السعدوي؛ فقد كانت علاقته به علاقة سطحية حتى أنه لا يعرف له عنوانًا ولا هاتفًا، أ متعلمٌ مثله تخرج في كلية الإعلام وقرأ وخاض في بحور العلم يقع بسهولة في مثل هذا الشَرَك؟ إلى هذا الحد يوجد فاصل وهُوة كبيرة بين العلم وبين تنفيذه؟ أو بمعنى آخر أهناك فجوة بين ما بين دُفتي الكتب وما بين خارجها؟ أرجل صعد أعلى درجات العلم يسقط إلى أدنى دركات الاحتكاك بالحياة؟ أليس في العلم منظار يُمكّن صاحبه من رؤية الشخصيات؟ أليست الفراسة جزء من العلم ؟ وإلا لكان الأميّ في الجاهلية خير من متعلم في عصر التكنولوجيا والتنوير .
- يا رب.
كلمة خرجت من فم بطلنا مصحوبة بزفير ساخن وتنهد لافح، نطقها وهو في سماء خياله وعينيه غير ثابتة على شيء معين، لا يشعر بشيء فقط إلا بحرقان في أعلى المعدة وإرباك بها، وكأنها غير راضية بحال صاحبها ثائرة على موقفه.
انتبه وقتًا إلى حديث أخيه فوجده ما زال يتحدث عن وجوب الزيارة للأقارب وصلة الأرحام، وأخذ يكثر من كلمة أين ... أين ... وكأنه تائه في طريق مظلم يريد أن يهديه أحد إلى مكان مسعاه، وصرخ البطل عندئذٍ؛ وقال لأخيه:
- أين .... أين .... أين ..... أكثرت من أين ...؟
فأشارت زوجته بيدها لتهدئه فاستجاب لها، فقال بطلنا في شيء من الهدوء:
- يا أخي؛ بدلاً من التفكير في لماذا؟ وأين؟ فكر معي في الأسباب الكامنة وراء هذين السؤالين، أم أنك اكتفيت بالتجريح واللوم والعتاب، ونصبت نفسك قاضيًا خاليًا من الذنوب، مؤديًا ما عليك واصلاً رحمك كما تقول، ثم أين هذه الصلة؟ نعم أقول لك: أين ...؟
- فرد الأخ (في اندهاش) أين ...؟ وماذا أنا فاعل الآن ...؟
- ما فعلتَ أكثر مما يفعله أي غريب يطرق الباب لمصلحة من المصالح ويأخذ ضيافته ثم ينتهي الأمر، أهذه هي صلة الرحم؟ إن كلمة الرحم يقصد بها تلك العلاقات الرابطة بقوة بين بني الإنسان
فتظاهر الأخ بالحزن:
- وماذا تريد مني أن أفعل لأحقق لك ما تبتغي؟
- لا أريد منك فعل شيء أكثر من أن تعلم أن الكلام الذي لا يُغني فعدمه غناء، والفعل الذي لا يتحقق أصاب عادمه وَصْمة المَقْت.
فردت زوجة سالم بصوتها النقيقي:
- وماذا تريد من أخيك حتى يحظى برضاك؟ أتريد أن يسبق فعلَه مالُه؟
فأسرعت فيروز بالرد:
- مال ...؟! إن أردنا المال فأنت تعلمين أن أبي – ولله الحمد – هو صاحب الفضل الأول عليكم فيما صرتم إليه، وما منعني عن طلب مساعدته إلا قول زوجي وحرصه على أن يغني بيته بعرقه وماله.
ثم مالت الزوجة على زوجها قليلاً:
- والحمد لله حتى في الأوقات العصيبة، وضيق ذات اليد يخرجنا الله منها، ففي هذا الشهر سُرق أخوك وفقد راتبه، وها نحن في منتصفه – ولله الحمد – دبّرنا أمرنا وستنتهي أيام الشهر كغيره.
تظاهر سالم بالفزع:
- سُرقت ... ولماذا لم تخبرني؟!
- أُخبرك ... وماذا كنت ستفعله إذ علمت؟ ها أنت قد علمت الآن.
- لماذا هذا التشدد في الكلام معي؟ ألا تتذكر أي عمل خير أسديته لك؟! يكفيك هذا البيت الذي تركته لك؛ لتعيش فيه أنت وزوجتك وابنك، ولم اطالبك يومًا بورث ...
وشاركته زوجته بصوتها المنفر وشكلها الأكثر تنفيرًا:
- الحق ... يا أستاذ سامي، أخوك عملّك الكثير، وهذا البيت بأرضيته يساوي الآن الشيء الكثير، ويشهد الله بأنه لم يذكر ورثه معك في هذا البيت وحقه فيه، فقد تركه لك بطيب خاطر.
فضحك بطلنا ثم قال:
- أتريدُ نصيبك في هذا البيت – يا أخي العزيز – واصل الرحم؟
فأكمل بطلنا قوله بعدما أشار على نفسه بقوة:
- أنا أستحق منك كل هذا الآن ألم تخبر زوجتك بما حدث منذ سنين؟ عندما عزمتُ أن أتزوج بالدكتورة، عندئذٍ سعيتَ حولنا لكسب ود أبيها الذي أعطاك المال الكثير وعلمك صنعته، وأعلنتَ للجميع بأنك متنازل عن حقك في هذا البيت، وكدتَ أن تكتب مخالصة بذلك، ورفضتُ أن أنفذ نصائح الآخرين وأسجل هذا التنازل في عقد بيع.
فتورد وجه الأخ خجلاً:
- وأنا لم أقل شيئًا عن أحقيتي في البيت؟
وأنهى بطلنا هذا الحديث الذي لا طائل من ورائه إلا كلمات تمزق حجاب الكرامة، وما تبقى بين الأخوين من حب نتيجة العشرة والقرب.
***
انتظر بطلنا السعدوي أمام عمله مبكرًا، وطال انتظاره حتى حضر فما لبث أن خفّ إليه وناداه، فأقبل السعدوي عليه مادًا ذراعيه ليأخذه في حضن طويل مصاحبًا بالقبل والترحاب، وقابله بطلنا بنفس الترحاب وبدأ السعدوي حديثه بالشكوى من الأيام وتلك الأحداث السيئة التي مرت عليه كقطع الليل المظلم لا يرى الرائي يداه، أ فيبصر الأخ أخاه؟!
سِحرٌ آخر منك يا سعدوي، وما أكثر ما حواه جُعبتك من كلام منمق وألفاظ تحيط بالمرء تجعله في دوامة لا يدرك فيها موضع قدميه، سمع بطلنا كلام السعدوي ويا للدهشة إذ ظهرت على وجهه علامات التأثر بكلامه، والسعدوي يسعد من داخله بأنه سحر فريسته واستمر بتأوّه قائلاً:
- عندما كثرت الديون عليّ لمعت في ذهنه ... (مبتسمًا) ... تعبيرك الجميل هكذا تعلمت منك.. (يعود لحديثه) فكرة تخرجني من هذه الكربة وهي القرض، (وأخذ يميل بجنبيه وهو جالس أمام مكتبه شاعلاً سيجارته وأمامه فنجان قهوته الفاخرة) لا اذهب بك إلى متاهات، ولا أكثر الكلام ... فقد فكرت في القرض.. المشكلة التي كانت أمامي البحث عن شخص أثق فيه ليَضْمنني وأشعر بأنه يحميني ويساندني.
حاول بطلنا أن يقاطعه، ولكن السعدوي لم يترك له الفرصة؛ قائلاً:
- أعرف أنك مستعجل ... لا أطيل عليك.. فأنت الوحيد الذي انفتح قلبي له وأحسست بأن رقبتي بين يديك مصونة ...
فقاطعة بطلنا بصعوبة:
- ولماذا لم تصارحني في وقته؟ وأين مالي الذي أخذته ووعدتني بأنك ستودعه في تلك الشركة العالمية لأجني من وراء ذلك الأرباح الوفيرة؟ لقد عيشتني في حلم كبير ...
فرد السعدوي بصيغة تعجب:
- لقد عيشتني .... لماذا تتحدث عن الماضي؟! فأنت ما زلت في أحلامك الجميلة ولا تستعجل، فالمولود إن استعجلناه جاء مشوهًا وقد يفقده أبواه، يا أخي، أنت رجل قرأت أكيد في الدين وتعلم أن الإنسان خُلِق عجولاً، وأن الله مع الصابرين، ثم إنك – يا أخي - تعلم زهدي وإخلاصي، ثم إنني قريبًا سأبرئك من ثقتي فيك وقضية الضامن الغارم هذه فاطمئن.
فنزلت السكينة على قلب بطلنا، وأحس بنسيم الأمن يهبّ، ويطرد بشيء من البطء رياح الخوف التي ملكت قلبه؛ فقال بطلنا:
- حتى يطمئن قلبي؛ حدد لي موعدًا لتخلصني من الضامن، ولأحصل ما وعدتني به من مالٍ.
فضحك السعدوي وأخذ نَفسًا من سيجارته:
- أنا الذي أحدد يا أبا السعد؟! بل أنت صاحب الأمر فيا حظك السعيد أرفق اسمك في شركات عالمية فصرت عالميًا.
فبدر في ذهن بطلنا سؤال، واحمر وجهه حمرة فجأة وهو يقول:
- لماذا لم تضع مالَك في نفس الشركة التي أودعتَ فيها مالي؟
فتمايل السعدوي، وابتسم قائلاً:
- سؤال ضروري لا يصدر إلا عن عقلية واعية، فأنا صاحب الفكرة وساعدتُ الكثير وفي نفس الوقت لا أشارك ... هكذا نجاح أحمد زويل!
فرد بطلنا (متعجبًا):
- الدكتور أحمد زويل ... أهو مشترك معي في نفس الشركة؟!
- لا ... لم أقصد هذا المعنى، إنما قصدت أن الدكتور أحمد زويل هو ثمرة جهد دؤوب من أساتذته، فلماذا اشتهر هو ولم يشتهر الباقون؟ الذين هم أساس بنائه.. إنما هم وسيلة؛ لتحصيل هذه النتيجة، وهم أشد سعادة من أن يصلوا هم؛ فقد استطاعوا أن يعلوه وهم الآن سعداء بثمرة عملهم في شخصيته العظيمة.
- جزاك الله خيرًا، حقًا الدال على الخير كفاعله، نِعم المرء أنت!
(11)
ترقب بطلنا الوقت عن كَثب، وكل يوم يصبر نفسه ويهدئ من روعه، ويقنع نفسه بأن الإنسان يجب ألا يظن سوءًا إلا ببينةٍ، والسعدوي كما هو واضح رجل أخلص، فهل يُقابل الإحسان بالإساءة.
فينتظر بطلنا كما شاء، وشاء له هواه وحسن نيته، فلينتظر فهناك من يحس بالمشكلة، ويُقدم على حلها توًا وهؤلاء هم الحازمون، وهناك مَن لا يحس مطلقًا حتى يجد نفسه حتف أنفه، وهناك من يحس بالمشكلة ويلعب فأر الرعب في صدره ثم يلوي عنقه ويقنع نفسه بالصبر والانتظار وأن العجلة فرصة العجَزة حتى إذا ما سبق قدرَه صبرُه، ووقع الأمر المحتوم بكى، ولات ساعة مندم.
أخيرًا فاق بطلنا على أنه انتظر بعد مقابلته بالسعدوي قرابة شهرين، نعم؛ شهران يصبّر نفسه وتشغله الأحداث اليومية، ونفسه الحالمة وأمله اللعوب عن رؤية الخطر، فدقت أجراس الفزع في نفسه، وشمّر عن ساعدٍ ليقابل السعدوي.
وبالفعل ذهب بطلنا إلى عمله ووجده هناك وأمامه فنجانه الفاخر والسيجار في فمه ونظارته على عينيه، وأخذ يقرأ في مجلاته الأجنبية، خفّ السعدوي إلى بطلنا وأخذه بالأعناق والقُبل، وأخذ يلومه على عدم رؤيته كل هذا الوقت، وحلف له لو أنّه يعلم عنوانه أو هاتفه لاتصل به حتى يعلم ماذا فعل؟ ومتى سيصل إلى حلمه الجميل؟
فقال بطلنا مندهشًا:
- سبحان الله! ما المسؤول بأعلمَ من السائل، أتيت لك اليوم لأجد عندك جوابًا يشفي غليلي، ويريحني فأجدتك سائلي نفس السؤال، لا أخفى عليك؛ فقد أصابني القلق وأحس بأننا خدعنا من هذه الشركة.
- قليل من الصبر لا يضر يا أبا السعد، فهذه الشركات عملها غير مقتصر على بلد معينة، فلها أكثر من فرع تغطي الكرة الأرضية، وإذا علمت عدد المشتركين لعذرتني في رجائي لك بالصبر.
أرجع بطلنا ظهره للوراء، وزفر زفيرًا طويلاً ثم قال:
- وماذا فعلت في الموضوع الآخر؟
- وأي موضوع؟!
- موضوع.. الضامن.
- وماذا تريد مني أن أفعل؟
- أريدك أن تنفذ وعدك بأن تخلصني من هذا الموضوع، فأنا في غنى عن الضمان ومشاكله.
- من أين قبضت الشهور السابقة؟
- ولماذا هذا السؤال!
- حتى تتأكد بأن هذا الموضوع لا يؤثر عليك من بعيد ولا من قريب.
- لله الحمد قبضت من عملي.
- وما زلت تقبض راتبك من مقر عملك ... لم يتحول راتبك إلى البنك مثلي.
- لا .... لم يحدث.
- فليس هناك مشاكل.
- المشكلة ليست في مكان القبض؛ إنما لا أريد أن ينشغل بالي بموضوعٍ لا ناقة لي فيه ولا بعير.
- (ضاحكًا) يا أبا السعد، أتظل طيلة عمرك تعيش لنفسك وفي نفسك؟! أين روح الأخوة والتعاون.
- (علا وجه الخجل، وتبعثرت كلماته) كنت أسأل ... أسأل عن ... عن وعدك.. بأنك ستخلصني من الضامن؛ فهذا الأمر يؤرقني ليل نهار.
- ولِمَ الأرق؟ فأنت تعلمني جيدًا، وتعلم نزاهتي، ومعك عنواني وهاتفي، تفضل في أي وقتٍ لتراني عن قرب، وتشاركني أمري وتشد أزري.
- أنا لا أدري لك عنوانًا ولا هاتفًا.
- (متعجبًا) أمعقول هذا؟ أ مع هذه الصداقة القوية ولا تعرف – حتى الآن- عنواني؟!
أملى السعدوي لبطلنا العنوان ورقم هاتفه، وضرب له موعدًا لزيارته، وليتعرف على أهله وليقف على حياته عن قرب؛ ليخرج من قوقعته ويشارك الناس همومهم ويدرك معنى التعاون.
***
هكذا أراد السعدوي أن يتخذ من نفسه معلمًا ناصحًا رشيدًا هاديًا لبطلنا، وهكذا أراد بطلنا لنفسه أن يصبح تلميذًا بليدًا لا حول له ولا قوة، يتيه في فيافي الدنيا، يريد يدًا تأخذه إلى الهدى وطريق الأمن والأمان، تجد بطلنا منصتًا لكلام السعدوي الذي تحدث عن المُساعدة و التعاون وكأنه بالفعل ساعد بطلنا أو مهد له طريقًا وعرًا في الحياة، وأخرجه من بحر فقره، وسد الله به وجوه مفاقره .
ذهب بطلنا إلى المكان الذي أشار إليه السعدوي وحدده، وفي الموعد الذي حدده، وأخذ بطلنا يسأل عنه وعن مكانه حتى عثر عليه فوجده في شقة واسعة مليئة بعُمال منشغلين في عمل النقاشة والتبليط وتجهيز الشقة.
عندما رآه السعدوي رحب به أشد الترحاب، وما لبث أن قدم مشروبًا فاخرًا، ومعه أشهي أصناف الطعام مما تشتهي المعدة إليه ويسيل من أجلها اللعاب، وقدّم إليه مزيدًا من التسالي والنُقل، وأجلسه في مكان بعيد عن عمل العمال وما يصدرونه من إزعاج، وبدأ السعدوي حديثه:
- أرأيت ما أخوك فيه من هموم وقلق وإزعاج؟ ثم تمادى قائلاً:
- والله يا أبا السعد، هؤلاء العمال يؤرقونني يوميًا من الساعة السادسة صباحًا إلى السادسة مساءً، ورغم ذلك احرص على عملي وعلى أن أسأل عن أحبابي وإخواني، (وأخذ يربت على ظهره)
فرد بطلنا في إعجاب:
- نادرًا ما يوجد في عصرنا أمثالك! رجلٌ جمع بين النزاهة والبراءة والإخلاص، علمتنا الكثير بسمتك وسمو خلقك، وحديثك هذا يبهرني ويزيدك عندي مكانة.
- يا أبا السعد، لا تخجلني ... والشيطان هو الوحيد الذي يسعد بالثناء، وأعوذ بالله من كلمة (أنا)، فأنا لا أحب المدح والثناء، ولكن الأمر عندي يتخلص في فلسفة تعلمتها من الحياة وهي ... (وأخذ السعدوي فنجانه يرشف منه رشفتين، واضعًا ساقًا على أخرى ومدخنًا) ... هذا الأمر هو أن الإنسان يجب ألا يكتفي بأن يكون حلقة مفرغة تصل بين فراش مهده وباب لحده، بين صرخة الحياة وأنّه الموت، أعتقد أن الحياة دار لا بد من إثمارها بالخير؛ حتى نجني ثمارها في دار الخُلد.
- والله يا سعدوي، عندك حق، الدنيا أمرها مفروغ منها ولولا السعي والعمل من أجل نفسك ومن حولك لمَللناها ولكلّت عزيمتنا.
- يا أخي، لقد مرت عليّ أيام أشد سوادًا من ظلمة الليل، أريد أن أحكي معك قليلاً حتى تقترب من حياتي
- تفضل، كلي لك آذنًا مصغية.
- أتذكر أنني أعتكفت سنة من السنين في المسجد، وأديت ما على من صلوات مفروضة ونوافل كثيرة، ويومها لو أنك رأيتني ما عرفتني اليوم؛ فقد كنت صاحب لحية كثة وثوبًا قصيرًا ... ورافقت أناسًا ممن تسمع عنهم ..... (وعلا صوته بالضحك)
- أمعقول هذا؟ هذه أول مرة أعلم منك هذا .... أكمل
- لم يحدث شيئًا، إنما دومًا أميل إلى التغيير والتجديد، هدفي في الحياة البحث عن الحقيقة، والتنقيب عن أفضل الصور، لا أطيل عليك ... تركت هذه الحال واتجهت إلى حال مناقضة لها ...
- وما هذه الحال؟ إني لشغوف بمعرفة بقية القصة.
- عملت مغنيًا ...
- مغنيًا!
- نعم، مغني مع فرقة يقودها صاحب لي، آهٍ ... حدث لي موقف لا أحسد عليه ...
- فما هو ؟!
- في إحدى الحفلات وقد وقفت بين الجمهور مغنيًا، شقّ ظلام الليل وعربدة السكارى وتمايل الجمهور أذان الفجر.
- أذان الفجر!
- نعم، فماذا أنت صانع إن كنت مكاني؟ إذا تركتُ الغناء ونزلت عن المسرح انقلب عليّ هذا الجمهور الغائب عن وعيه ضاربًا ، وإذا واصلت في الغناء انقلب ضميري عليّ مؤنبًا .
- فماذا فعلتَ؟!
- والله لا أُخفي عليك، فضلت انقلاب ضميري عليّ على انقلاب الجمهور، فأني استحمل الانقلاب الأول ولا أطيق الثاني.
فضحكا بشدة، ودخل في أثناء ضحكهما أخو السعدوي، فقام السعدوي ليعرفهما ببعض، وعرف بطلنا بأن أخاه هو الأخ الوحيد وأنه دائم السفر إلى كندا للعمل والدراسة، فهو خريج كلية طب الأسنان، وهو أشبه بالسعدوي في الصفات والملامح، وبعد ساعات استأذن بطلنا للانصراف حتى لا يتأخر عن زوجته وابنه.
***
فكر بطلنا وهو في طريقه إلى زوجته أن يتجه إلى بيت أخيه لزيارته وليوقف سيل عتابه ولسان اللوم، وليراه بعد زيارته الأخيرة.
أطرق باب فيلا أخيه التي تحيطها حديقة واسعة تكتنفها سور له بوابة حديدية الكترونية، ففتح الخادم الباب فعرّفه بنفسه وطلب منه أن يخبر أخاه سالمًا بقدومه.
بعد فترة نزل سالم من الدور الثاني مندهشًا من زيارة أخيه المفاجئة، والذي لم يحضر منذ انتقاله إلى الفيلا الجديدة، فرحب به سالم وأجلسه في حجرة ملئت بأفخر الأثاث وأغلى الرياش وأفخم التحف.
وبعد الترحاب قال سامي :
- جيئتك اليوم لأراك حتى لا يكون لك عليّ لوم ولا عتاب.
قال سالم (غاضبًا):
- وهل أعجبك اتهامك ليّ في تلك المرة، والله لقد عزمت على ألا أدخل لك بيتًا.
- لماذا يا أخي؟ أنت تعلم بمنزلتك عندي، وأنني لا أضمر لك إلا ما هو حب واحترام لك ولزوجتك.
- فلماذا أنت دومًا تعنفني ثم تتهمني بأني أريد بيتك؟ أما ترى ما أنا فيه؟! أ أنظر إلى بيتك أنت؟!
- الحمد لله وربنا يكثر من نعيمه عليك، ويمتعك بوافر الصحة والعافية.
- أنا لم أغضب منك بقدر غضبي من زوجتك التي دائمًا تجعل أباها له يد الخير عليّ، ألم تعرف أنه حاول أن يؤذيني في عملي ويقف في طريق تقدمي ويخسرني في السوق؟ ... نعم لقد حاول أكثر من مرة أن يحرجني في السوق ...
- لا تنكر فضله عليك ... ولا تكن جاحدًا ... أو مدعيًا عليه..
- أكن جاحدًا ومدعيًا ... هذا الكلام لا يقال لي، فقلبي لا يعرف الحقد مثل قلب حميك الذي تعليه على أخيك لا أحب أن أبوح بكل شيء ... ولقد ضحيت أيضًا من أجلك ...
- وما هذه التضحية التي تتحدث عنها؟
- تركي لبيت العائلة لك، بدون مقابل أتظن أن هذا البيت بالشيء الهين؟ ثمنه تجاوز المليونين ورغم أنني أمر الآن بظروف عسيرة وضائقة مالية شديدة، اعتبرت أن ليس لي بيت ولا إرث، وسلمت أمري إلى الله
- لأول مرة تتحدث بهذه النغمة، أما كفاك ما أنت فيه من عز، أتنظر إلى ما في يد أخيك؟ أخوك الذي عكف على راحتك بعد أبوينا، بل إن زوجتي شملتك برعايتها ومدت لك يد المساعدة.
- لا تذكرني بزوجتك ... فأنا أتذكر بها أباها المفترِي ...
- والله إن أباها هو المفترَى عليه، وإنما أنت المفتري.
- أجئت إلى هنا لتوبخني؟!
- لا ... إنما جئتك لأرى قلبك الواسع المليء بالحب..
- ماذا تريد مني؟ اذهب إلى زوجتك وأبيها هذا المفترى عليه.
- دعك من هذا يا أخي ... إنما أريد منك (في تلعثم) أريد ... مبلغًا من المال وسأرده لك بعد حين.
- (باستهزاء) أنت تريد مني قرضًا؟ اليوم ... سبحان الله ... جمع الله في يوم واحد بين نقيضين ... فأنا اليوم كنت سآتيك لاقترضت منك ... ولقد ذكرت لك توًا الضائقة المالية التي أمر بها ...
- (في تعجب) أنا أقرضتُك أنت؟!
- نعم، فأنت أخي وليس لي إلا أنت، أتبخل علي؟! أم أن زوجتك تحرضك على قطيعة الرحم وقسّت قلبك نحوي ... لا تقلق سأكتب لك ما يضمن لك حقك.
- قرض ... حق ... كلام لا طائل من ورائه غلا الضحك والاستغراب، منذ متى قاد ميتٌ حي؟! أو أهدى أعمى بصيرًا؟!
- ما معنى هذا الكلام؟
- معناه ... أنني خالي الوفاض ... صفر اليدين ... وفاقد الشيء لا يعطيه.
نهض الأخ من مكانه واتجه نحو مدفأة مصنوعة من أفخر الرخام، وأشعل سيجارته؛ ثم قال:
- عندي فكرة تنقذك، وتخرجني معك من هذا المأزق؟
- ما هي؟!
- أعرف زميلاً ثريًا يقرضك ولكن بشرط ...
- ما هذا الشرط؟
- قرض بربح
- ربا!!!
-اليوم لا نسميه إلا ربحًا، أو استثمارًا؛ فالمال الذي قرضه إن كان معه لاستفاد منه في مشروع أو آخر، يدر عليه بربح؛ فهو يفترض بأنه وضع بالفعل هذا المال في مشروع ويقدر الربح منه.
ثم استكمل سالم كلامه:
- أو ... نحذف تلك الفكرة ما دامت تغضبك ... وعندي غيرها!
- ما هي؟!
- البيت ... بِعه بيع صوري
- لم أفهم!
- أنت تريد مالاً ... وسيكون وفيرًا يغطي كل احتياجاتك نظير بيع نصف البيت، وأنا أعرف مشترى يمكن أن يقدر ثمنه ولا يبخسنا فيه.
- (مستنكرًا) ولماذا لا أبيع كل البيت؟!
- (تظهر على وجه علامات الارتياح واقتناص الفرصة) كما تحب ... ولكن راعي الله في حقي من البيت فلي نصفه وأنت حر في النصف الآخر.
- أنت الآن تريد مني أن أبيع حقي في البيت، وأترك حقك؟!
- نعم، وستجد الراحة من وراء تسديد كل ديونك.
- جئت لك اليوم لأطلب مساعدة، تريد مني أن ترميني في متاهات لا يعلم منتهاها إلا الله ...
- (بهدوء مبالغ) كما تحب يا أخي، فإنما أردت أن أساعدك ثم الرأي في آخر الأمر لك.
انصرف بطلنا من عند أخيه مُلتاث الخطى، لا يدرك من جهة تلاحقه الهموم! وهل أراد سالم الخير أم رميه في جُب بعيد غوره؟
ظل إلى أن خرج من عند أخيه حابسًا عبراته في مآقيها، خشي أن تفضحه وتفضح ما في قلبه من الحزن وما لبث أن خرج إلا وقد ترك الحرية لتلك المآقي أن تجهش بالبكاء، وجرت الدموع ملبية قدر ما يحمله من هموم في قلبه، وزاد عليه خذلان أخيه وطمعه فيه.
(12)
مر على إيداع بطلنا ماله في تلك الشركة الاستثمارية – كما يظن – عامًا ولم يجد من السعدوي إلا كل كذب وتدليس وغش ، ففي كل عهد يعده يتبعه مباشرًا نقضًا له ، ففي ذات مرة أخذ السعدوي على نفسه عهدًا ، وأقسم على ذلك بأن يساعد بطلنا في البحث عن عمل إضافي ، وخاصة بأن علاقاته الاجتماعية واسعة مع مختلفي فئات المجتمع من مستثمرين وكبار رجال الأعمال ، وجعله يعيش في حلم آخر يدر عليه الربح الوفير والشهرة العظيمة ، فاقترح عليه أن يزكيه لدى قناة إذاعية مشهورة ليعمل لديها كمذيع وأقنعه بأنه أهل لذاك ولا سيما هو خريج كلية الإعلام .
أحس بطلنا بأن الدنيا ستبتسم له، وها هو سيعمل في مجاله بل طرأت على ذهنه الاستقالة من وظيفة أمين في دار الكتب، وبدأ يسهر يراجع في كتبه السابقة في مجال الإعلام، واستمر على ذا الحال شهرين.
***
حتى أشرقت الشمس في نهار بدت فيها واضحة تمزق حجب الوهم، وتبدد سواد الفهم، وتتلاشى معها كل نفس خبيثة، إنه يوم ناصع الإشراق كنصاعة الحق الأبلج، في هذا اليوم قرر بطلنا حسم القضية وموقفه مع السعدوي، نعم، جاءت فكرة الحسم متأخرة ولكن ما لا يدرك جُلة لا يترك كله، الآن سيكشر الأسد عن أنيابه، عندما شعر بأنه مخدوع وأن عرينه قد أهين.
أوقف بطلنا السعدوي في مقر عمله، وأمام الأشهاد أراد أن ينصب له محكمة علنية، شعارها: " لا دين لمن لا عهد له "، وجه له تهمة استغلاله ككبش ساقه الله له فاستلذ بذبحه، وأبحره في بحور الوهم بكلامه المعسول، فقاطعه السعدوي (وقد علا صوته):
- لمثلي يقال هذا الكلام! أنا أشرفُ ...
- (بسخرية) وأي شرف تعني؟ جعلتني موضع سخرية لألاعيبك الخبيثة، أما اتقيت الله يومًا؟
التف الجميع حوله، وظهر علة وجوههم الحبور والاستحسان، فقد شقت هذه الكلمات ستار غيبوبتهم، واصل بطلنا كلامه:
- اسمع يا هذا، إن مثلي قد ينخدع فترة من الزمن ولكنها لا تدوم ... " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"
فرد الجميع:
- نحن معك يا سامي، ولن نتركك حتى يُرد لك حقك.
رد السعدوي وهو يتظاهر بالتماسك:
- أضحكتموني يا سادة، أما علمتم أن القانون لا يعرف للمغفلين مكانًا فيه، بأقرب حائط اضربوا رؤوسكم بها لعلها تهز بعض ما كُمن فيها، وتجدون مخرجًا يخلص نصير المغفلين.
- لن أرد عليك ...فلا يضيع حق وراءه مطالب، وما دام الله معي فلا راد لحكمه، وما دام هؤلاء معي فيد الله معنا، نضرب بها كل مخادع غرور.
فرد الجميع:
- نعم، نحن معك، وإذا أنت وقعت في خداعه فيكفيك أنك أنرت للكثير طريق الحق، وأخرجتنا من هذه الغفلة التي كانت ستوقع بنا لا محالة تحت مخالب هذا ومن على منواله.
فتقدم أحدهم قائلاً:
- إنني أعرف محاميًا مخلصًا، فلنأخذ حقنا بالقانون الذي تلاعب به مثل هؤلاء، وجعلونا نخشى التفوه بحقوقنا.
***
اشتد الألم بزوجة بطلنا التي علمت بالقصة بأكملها، ولم يخف عنها أن الأيام ستكشف عن حدث عظيم، ولكنها ما كانت تعلم بأن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وأن الأيام ستنشق عن جبل همٍ ما قدر قلبها أن يطيقه ولا جسمها أن يقف لحمله، فوقعت توًا ولازمت فراشها مدة طويلة.
أخذ بطلنا يقبل يدها معتذرًا وهي غائبة عن وعيها:
- حبيبتي، لا تفارقيني فأنتِ نبض حياتي وسكني وراحتي، لا تلومينني على إخفائي لما علمتِ؛ فإنما أردت أن أفاجئك بما هو يسرك، فإذا هو يجرك إلى ما أنت عليه، حبيبتي، قومي من فراشك وهذه عصاك أنزلي بها على ظهري ضربًا لا رحمة فيه ولا شفقة حتى تريحي قلبك من هذا الهم، وإذا أردت أن أريحك مني؛ فإنني في غنى عن حياةٍ أنتِ لستِ فيها ، أنت الحياة وما أنا إلا بك .
يا رب اترك لي حيبتي فلن أطيق فراقها، يا رب تقبل مني دعائي فأنت أعلم بما في ضميري وقلبي لها من حب أنت واضعه، فلا تجزعني بفراقها من قبل أن تنزع قلبي وتقبض روحي إليك.
آهٍ يا حبيبتي آلمتك كثيرًا، ومنعتك عن مزاولة مهنتك، وعيشتك في ضيق حال لم تعتادي عليه، وقبلت كل هذا ولم تأنِّ، فكم أنا حقير أمام عظمتك، يا أعظم ملاك وأجمل وجه خلقه الله بين البشر، ها هي دموعي تذرف حتى تغفري لي، ويتقبل قلبك أسفي.
فكم أنا غبي إذ لم أبصر إلى صفائك وسريرتك الطاهرة، وأخفيت عنك ما لا يجب أن أخفيه، فالإخفاء مطية الإخفاق، ألا فانهضي واتركي فراشك وأدخلي في قلب حبيبك سرورًا يدفعه إلى الوقوف في وجه الباطل، أعطيني يديك كما تعودت منك لأمزق بها جلود الأفاعي ... أعطيني ذهنك لأرجح به قول الحق ولأمحق الأقاويل ... أعطيني عينيك لأبصر بها سحر هؤلاء المخادعين.
في هذه اللحظة فاقت الزوجة من غيبوبة طويلة، وأحست بدمع زوجها يذرف، ورأته منحنيًا على يديها مقبلاً، فنادته بصوت خافت، فأسرع يلبي ندائها وهو يقبل وجنتيها وهامتها، ويعتذر لها بإلحاح راجيًا أن تقوم من عثرتها وتصفح عنه، فرفعت الزوجة رأسها وقالت:
- حبيبي، ما تمنيت على الله سواك، فإذا أردت شفائي، فلا تغفل يومًا عن حقك، ولا تقوم بعمل إلا بعد دراسته.
قالت الزوجة ما قالته، ثم لم تنبس ببنت شفه وظهرت على وجه بطلنا علامات التصميم وهو يردد: " لا تغفل يومًا عن حقك ".
فقال لزوجته في إصرار ظهر على ملامح وجه:
- وعْد عليّ أن أكافح حتى تسعدي وتشعري بأنني أستحقك.
ثم أنصرف بعدما أطمأن بأن أم الزوجة قد حضرت وأنها سترعى زوجته، خرج الزوج ونظرات الزوجة تشيعه بابتسامة الألم.
***
في مكتب ضخم بإحدى المناطق السكنية الفخمة، ذهب بطلنا إلى هذا المحامي الذي أشار عليه أحد العاملين بدار الكتب وكان يدعى " لطفي "، وقد سمع بطلنا منه كلامًا يمجد هذا المحامي، وأنه علا نجمه بسبب جهده وعمله وإخلاصه، فما من قضية إلا وقد كسبها، وأخذ لطفي يحكي لبطلنا:
- ذات مرة ذهبتْ فتاة في ريعان عمرها شاكية له زوجها الذي يسيء لها ويعاملها شر المعاملة، وكأنها خلقت فقط لراحته ولقضاء حاجته، ورفض الجميع قبول قضيتها وخاصة وأن زوجها رجل معروف بالشدة والوصولية، ومن يجرؤ على الوقوف أمامه يلق حتفه لا محالة. أصر هذا المحامي أن يقف بجوارها مهما كانت النتيجة.
فرد بطلنا:
- وماذا فعل ... شددت انتباهي.
- الأحداث تترى فما أن علم هذا الزوج بخبر المحامي حتى أراد أن يرسل إليه من يكسر مكتبه ويحرقوا ما به من أوراق وقضايا، علم المحامي بهذا التدبير؛ فقد استمال قبل ذلك أحد رجال هذا الزوج ومنّاه بالمال والحرب خدعة، فكان هذا الرجل عين للمحامي وساعده الأيمن.
- إنه لمحامي ذكي، صدقت وصدق قائلها: " الحرب خدعة "، والغافل من لم يحرص، ويحذر مَن حوله ويترقب خطوات أعدائه.
- وما أن علم المحامي بهذا إلا وقد اتصل بصديق له يعمل في الشرطة الذي قام بما أوقعهم متلبسين بتهمتهم قبل الشروع في جريمتهم من تخريب مكتب المحامي، وتم استجوابهم واعترفوا على محرضهم، وبذلك ساعد هذه المرأة المسكينة، ومن ذلك اليوم ذاع صيته وعرف كالنار على علم.
تذكر بطلنا هذه الحكاية وهو في مكتب هذا المحامي، وكان يكنى بين الناس بأبي النصر، وكان المحامي سعيدًا بهذه الكنية التي عبر الناس بها عن سعادتهم وفرحتهم بانتصاراته المتلاحقة في وجه الظلم والاستبداد
دخل بطلنا على المحامي ورآه رجلاً فارع الطول قوي البنية ذكي الفؤاد قسمات وجهه تعبر عن حزمه وقوته وعدم خوفه من المستقبل، قام المحامي وسلم عليه أحر التسليم وأجلسه وطلب له مشروبًا، وأمسك بقلم وأفرد بعض أوراق أمامه، واستعد ليملي عليه بطلنا شكواه.
- ما قصتك يا أستاذ سامي؟ لقد أخبرني لطفي عنك.
- لله الحمد ما زال في الناس خير.
- يا أستاذ سامي، لا تقل هذا فلكي تذوق الحلو وتستطعمه لا بد وأن تلعق المر وتعاني مرارته.
- آهٍ ... يا أستاذ، إني قد أصابني المر بغُصة أكرهتني الحياة، وزعزعت الثقة في نفسي.
- لا يا أستاذ سامي، لا تقل هذا، فلكل داء دواء، وإذا خسرت جولة فلا تبتئس فما زالت الحرب دائرة.
(انفرجت أسارير بطلنا، واستنشق عبير الثقة تسري في أنفاسه)؛ فقال:
- هل يمكن لي أن أسترد حقي وانتصر على الظلم؟
- اعلم أن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فقط أخبرني بالتفاصيل.
***
حكى بطلنا ما دار بين مدمع وحزين على ما حدث، وبين غضبان أسِفا على حاله وحسن نيته.
عرف المحامي بأنه أمام رجل أوقعته حسن سريرته ونقاء معدنه تحت براثن من لا يرحم، براثن تتلذذ بلحم الضعيف وتقوى على حساب المسكين، وما هذه القوة إلا كغثاء السيل وفي وقت صفاء الماء لا يوجد لها أثر، ولا يوجد الصفاء إلا حيث يَحُلُّ العدل وينتصف المظلوم من الظالم.
رفع المحامي القضية سريعًا إلى الجهات المختصة، ولكن سبق السيف العذل؛ فقد هرب السعدوي بعدما باع شقته الفاخرة التي جهزها بأحسن الرياش وأجمل التحف، جهزها بهذا المال الذي قرضه تحت ضمانة بطلنا، وبما جمعه من هنا وهناك، هرب السعدوي وترك بطلنا في مأزق لا يحسد عليه فقد صار هو المسؤول عن رد القرض، حاول أن يُفهم المسؤولين قصته فلا مستغيث له ولا منقذ، شعر بأنه في وقت عسرة.
هناك مثل عربي يقول: " يُضرب الثور لما عافتْ البقر "، فما ذنب الثور؟ ذنبه أن البقر التي تحلب وتنجب قد عافت الماءَ ولم تشرب، فلكي تشرب لا بد من إخافتها بطريقة غير مباشرة، وذلك بضرب الثور ولا ذنب عنده إلا أنه حاميها.
كذلك أخذ بطلنا بذنب غيره، فما ذنبه؟ ذنبه أنه ترك نفسه لشخص غير مؤتمن كذوب خائن للعهد والأمانة والقانون لا يحاسب أحدًا حتى يقع في شرك الخطأ، سواء أكان خطأ منه هو ذاته أم خطأ غير مقصود ووقع تغريرًا، لا فرق المهم لا بد من الثور، ثور يضرب حتى يدعي القانون بأنه يأخذ العابثين، ويضرب على أيديهم.
(13)
ماذا يفعل بطلنا بعدما هرب السعدوي، وماذا يفعل المحامي مهما أوتي من قوة وإخلاص؟ ومما زاد هم بطلنا شدة مرض زوجته وعدم رغبتها في الامتثال للشفاء، ولقد قالت ذات يوم لمن حولها:
- لماذا الشفاء؟ والشقاء ضارب في بيتنا، أيستطيع إنسان أن يجمع بين جنبيه مثل كربي؟ نعم، فأنا في كرب لأن زوجي مهموم، وأنا في كرب فابني لا يمر عليه يوم أفضل من قبله، فالأيام تتشابه في الفقر والغم، فكيف أتماثل للشفاء؟
دخل بطلنا أثناء كلام زوجته وقد سمعها، فألقى السلام على الحاضرين بصوت حزين، والحاضرون هم والدي زوجته وأخوها ذو العقدين.
قال بطلنا لزوجته بصوت فيه أسف وندم:
- لماذا تزيدنني همًا يا غاليتي؟ هوني عليك حتى يهون الأمر عليّ.
رد الوالد (وعلى وجهه علامات التفاؤل والأمل والود)
- لا عليك يا سامي، إنما كلامها من حزنها، وكم من أزمة مرت! وستمر ضائقتك هذه ولكن المهم الاستفادة واتخاذ العبر وعدم اللدغ مرة أخرى؛ فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
- وكيف لي أن أخرج وكل المسالك ضاقت وتعسرت؟ وهذا المخادع هرب وتركني في ورطة.
- لا عليك ... فقد سددت عنك كل ما عليك.
- لا ... لا... لِم فعلت هذا؟
- (في حزم) لقد تركتك وابنتي تبدآن حياتكما كما تحب وتود، ولا بد للإنسان أن يتعلم من أخطائه وأكبرها في منعك لزوجتك الدكتورة أن تزاول مهنتها فاليد الواحدة لا تصفق، وأنت حبست مواهبك خلف الجدران وعندما خرجت لتتعامل مع الناس وقعت، ويا ليتك استشرت وسألت.
قالت الأم في صوت حنون:
- يا بني، الله خلق الناس ليتعاونوا ويتعارفوا، نكسب من بعضنا، فعمك الحاج ما اشتهرت تجارته ومحلات الموبيليا التي أنشأها من ثلاثين سنة إلا بعد كد وضرب في الأرض.
- قال الأخ بصوت فيه احترام وتقدير:
- يا أستاذ سامي، في كليتنا قرأت إعلانًا عن مسابقة.
فاقت الزوجة من غيبوبتها:
- مسابقة .... مرة أخرى ... لا ... الله يرضى عليك.
فضحك الأخ:
- ليست كمسابقات الماضي، إنما هي مسابقة عن كتابة عمل أدبي، والفائز بالمراكز العشرة الأولى لهم جوائز ثمينة.
فقال الأب:
- الحمد لله، هذا مجالك، فاستثمر عقلك وموهبتك ووقتك.
قال سامي:
- وهل يمكن لمجروح مثلي أن يعود؟!
فقالت الزوجة بصوت متقطع:
- إذا لا تطلب مني الامتثال للشفاء ... فلا شفاني الله إذا لم تهتم بهذا العمل، ولتقم من الآن في تنفيذه.
- لا حرمني الله منك يا بسمة حياتي، لا والله لأتممن ما تريدين، ولأحققن ما ترغبين فيه، وبعد اليوم لن أمنعك عن عملك، ولن أخفي عنك أمرًا، وهذا عهد عليّ أمام الجميع.
***
تماثلت الزوجة للشفاء، وفرحت بسهر زوجها ومواظبته على عمله الجديد؛ كتابة مؤلف أدبي يتضمن نقدًا على عمل شعري أو قصصي، فاختار عمل قصصي يحمل فكرة الضياع.
أوقفته مقولة المفكر الاجتماعي الألماني " برونو بوير " التي قالها عام 1843م: " إن اليقين السائد في الوقت الحاضر هو عدم اليقين "
فطرق بطلنا وكرر هذه المقولة، ودخلت الزوجة عليه وهو سابح في فلك هذه المقولة، وجلست أمامه مبتسمة قائلة :
- شاركني في تفكيرك ... لعلنا نتبادل الأفكار.
- على الرحب، هناك مقولة تثير فيّ التفكير.
- ما هي؟!
- " إن اليقين السائد في الوقت الحاضر هو عدم اليقين "
فضحكت الزوجة وأدخلت السرور في قلب بطلنا، وأحس بالسعادة ترفرف حوله، ثم قالت:
- ماذا قلتَ؟
- " إن اليقين السائد في الوقت الحاضر هو عدم اليقين "
فتمايلت الزوجة في نشوة من الحب:
- كيف يجتمع الشيء ونقيضه في وقت واحد؟
- هذا هو الضياع، يا حبيتي، الذي أبحث عنه وكتبت عنه.
- الضياع!
- نعم، يا بسمة حياتي، الضياع الذي أقمت مؤلفي على فكرته.
- وماذا ناقشت فيه؟
- ناقشت عدد من النقاط محورها هذه الفكرة " الضياع " فكرت في الصدفة، هل الصدفة وسيلة إلى الضياع أم طريق إلى الإيجاد؟ فكرت في الحظ وقول العامة: " قيراط حظ ولا فدان شطارة " هل هذا القيراط يُغني أم يُهلك؟ هل يمكن لفرقعة أن تكون بقوة بناء له أساس، وإلا لتثبتت العمارات التي تعرفينها ونسمع عنها وعن الضحايا جراء سقوطها نتيجة الغش في أساسها.
وظل الزوج يتحدث وهو يتلذذ بالنظر إلى وجه زوجته المحبوب إلى قلبه.
- الضياع يا حبيبتي، منشأه ذاتي أم اجتماعي؟ فهل الضياع مسؤولية فرد اختار لنفسه هذا المصير؟ وهل يمكن لفرد أن يُودي بنفسه؟ أم أن المجتمع يدفع أفراده إلى هذا المصير الأسود؟
- الفرد يؤثر على مجتمعه، وكذلك المجتمع يؤثر على أفراده؛ فالعلاقة لا يمكن انفصالها، ولكن يمكن أن تقول: هل المجتمع له النصيب الأكبر والمسؤولية العظمى في هذه القضية؟
- صدقتِ، ونَعم الحوار معكِ يا نسمة الروح، فما رأيك؟
- الرأي بأن الفرد يولد وفيه اتجاهان، والمجتمع يتكون وبه قوة مغناطيسية، ينجذب الفرد بأحد اتجاهيه إلى هذه القوة التي تتنوع وتختلف؛ لذلك يأمر الله في كتابه إذا جلس أحدنا في مجلس لغو أن يقم منه أو يصرفهم إلى حديث غيره، ولا ينخضع إلى قوتهم المغناطيسية، ويجرفه جانبه الشيطاني نحوهم، بل يغلب جانبه الملائكي، ومن ثمّ يعدل من قوم مَن حوله.
- وما تقولين في شخص نال الدرجات العلا من دراسته، ولم يظفر إلا بالدركات الدنا من الدنيا.
- أقول بأن الفرد يقع عليه مسؤولية وكذلك المجتمع، فكما قلتُ لك أن المجتمع له نصيب من التأثير قد يزيد أو يقل، والفرد له تأثيره الذي قد يزيد وقد يقل، وإلا ما سمعنا ببطولة أفراد يعدلون أمة كاملة، وما تتحدث عنه من درجات ودركات إنما هي من سعي المرؤ في محيط مجتمعه ودنياه.
- لا ... بل هي من عمل المجتمع وحده... فالمجتمع في يده أن يأتي برياح الرخاء على أفراده أو يأتي بإعصار يجتثهم، فإذا تم توفير كل ما يحتاجه الأفراد لم نجد عاطلاً أو من يزاول مهنة لا تناسبه.
- وماذا ناقشت غير هذا؟
- ناقشت موضوع الإنسانية وضياعها عند الإنسان.
- وضح.
- هل الإنسان الذي يخدم ويقدم مساعدة لغيره له وجود حقيقي؟ وإذا وجد فما رأي الغير فيه؟ ولماذا لا ترتبط قوة السيادة بقوة الإنسانية؟
- المفترض أن الإنسان يخدم أخاه لله وفي الله، لا يبتغي جزاءً ولا شكورًا.
- صدقتي ... ولكن هل الإنسانية الآن وليد بلا والدين؟ هل الإنسانية شمعة تضيء لتزيل سواد الليل وهي تحترق وتفنى؟ اسأل عن الجزاء والمقابل، والجزاء من التكاليف الإسلامية.
- ما معنى هذا؟
- معناه أنني أُصلي وأعلم بأن من وراء عملي جزاء: جنة أو نار.
ثم اتكأ سامي مقتربًا من زوجته:
- حبيبتي، كم هو ثقيل على النفس أن تشعر بعدم المقابل من عمل تؤديه، بل يشتد الثقل إذا لاقت عكس إحسانها ولا سيما من القريب ، ومن الشدة التي تقع فيها النفس ألا تفهم على حقيقتها وأن يد المساعدة والإنسانية من الفضائل والأبجديات الأولى للإنسان ، فيظن الظان بأن صاحب الإنسانية شخص قليل الخبرة أبله .
- أنت تقول يظن .... وبعض الظن إثم.
- ولكن قد يصل الظن بالفرد أحيانًا إلى حد الشك في النفس وعُدُولها عن الإنسانية.
- حبيبي الطبع يغلب التطبع، ومن كان إنسانًا سيظل إنسانًا إلى مماته.
- ولكن إلى متى نضمد جراحنا بقضايا فردية، ونضع رؤوسنا في الرمال حتى لا نرى الواقع الذي حولنا متشبثين بالروح الدينية غير مفهومة المعاني وهوامش الإسلام، الذي إن تمكن في قلوبنا صلح حالنا.
- إذن نصل إلى نتيجة حتمية وهي ...
ابتسم بطلنا قائلاً:
- نعم، يا حبيتي .... هو الإسلام ... ففي تنفيذ تعاليمه الصحيحة وقاية من الضياع.
فابتسما معًا ودخل عليهما ابنهما مسرعًا
أبي .... أمي ... لقد انتهيت من الجزء الأول من القرآن.
جدا رائعة . كل التقدير والإحترام لكاتبها دكتور/ محمد سليمان
ردحذفجميلة جدًا، كعادة الدكتور محمد إبداع في الكتابة والتفكير
ردحذف