لا أحد تقريبًا يجهل أن كلًّا من الأدب والسينما ينتميان إلى الفنون الجميلة، وهذا يعني أن هناك ما يوحّدهما. فانتماؤهما معًا إلى هذا الفرع الكبير من الثقافة الإنسانية لا يمكن أن يكون عفو الخاطر، بل لا بد أن يكون له ما يبرّره. وإذا ما دققنا النظر في هذا الانتماء وتأملنا في هذين الفنين كليهما، ستستأثر باهتمامنا -دون شك- كلمة "فن" التي تجمع بينهما. يمكن تعريف الفن بأنه التعبير عن عمق الكينونة الإنسانية بأشكال إبداعية متنوعة، تتجاوز متطلبات عيش الإنسان اليومية لتنغمس في تأمل ماهيته النفسية والوجودية والروحية. ولعمري، فإن الإنسان -نتيجة لاهتمامه بهذا الفن- يحقّق إنسانيته من خلال الرقي والتعالي عن حيوانيته ورغباته الغريزية الملحّة.
ينقلنا هذا التعريف مباشرة إلى الأدب والسينما، وسوف نضرب صفحًا عن الاختلافات الكثيرة والظاهرة بينهما، التي يضيق المجال عن حصرها في هذا المقال. يكفينا، بالمقابل، التوقف عند ما يجمع بينهما، وهو أساسًا الطابع الإبداعي الذي يميّز كلًّا منهما. فالأدب فنّ إبداعي أداته الكلمة، والسينما فنّ إبداعي كذلك، لكن أداتها الصورة. كما يشتركان في خاصية الخيال التي تجعل كليهما قابلًا للوجود. فلولا الخيال لما كان هناك أدب أو سينما؛ إذ يتميّز ممارسو هذين الفنين بقدرتهم الفائقة على الخلق، فلا ينفكّون يبهروننا بحيوات جديدة يبرعون في اجتراحها، تجعل الاهتمام بهما مبرَّرًا تمامًا.
كما أن كليهما -وأتحدث هنا عن الرواية والقصة كجنسين أدبيين- يتميّزان بطابعهما السردي، الذي لا يعني سوى تطوير أحداث تقوم بها شخصيات، تنطلق من نقطة معينة وتنتهي عند أخرى. لا يعني ذلك بالضرورة تطوّرًا كرونولوجيًّا خاضعًا للزمن الطبيعي الذي يبتدئ من ساعة معيّنة لينتهي في أخرى. إذ يمكن للزمن النفسي التداخل في السرد، حيث تختلط الأزمنة بشكل قد يربك القارئ أو المشاهد أحيانًا. كما يمكن للقصص أن تنطلق من النهاية وصولًا إلى البداية المنطقية للأحداث.
ولعل هذه الخاصية المشتركة هي التي حفزت السينما وروادها لاقتباس كثير من النصوص الروائية وتحويلها إلى أفلام حققت -دون شك- نجاحات مبهرة وسارت بذكرها الركبان. أنتجت هذه الظاهرة ما يُسمّى بـ**"سينما المؤلف"**، وقد لمع في هذا السياق العديد من الأفلام التي حافظت على أسماء الروايات المقتبسة، فأضحت أيقونات تؤشر على هذا التعاون القوي بين الأدب والسينما. فمن منّا ينسى فيلم "ذهب مع الريح" المقتبس عن رواية للكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل بنفس الاسم، ومن إنتاج دايفيد سيلزنك وإخراج فيكتور فليمنغ؟ أو فيلم "العجوز والبحر" المقتبس عن رواية شهيرة لإرنست هيمنغواي؟ كذلك فيلم "مدام بوفاري" المقتبس عن رواية غوستاف فلوبير. هذه النماذج العالمية، وغيرها كثير يصعب حصره، تؤشر على عمق العلاقة بين الأدب والسينما.
وفي السياق العربي، أدلت السينما العربية بدلوها في هذا التوجه الثري والباذخ. إذ عمد مخرجو ومنتجو السينما العربية إلى الاستفادة من النبع الثرّي للرواية العربية، فاقتبسوا منها نصوصًا لامعة، وحوّلوها إلى أفلام أضفت على الشاشة الكبرى جاذبية خاصة. وقد ازدهر هذا المجال خصوصًا خلال المرحلة الرومانسية التي هيمنت على الرواية العربية في النصف الأول من القرن العشرين وبعده بقليل، مثل روايات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله. كان أوج هذا التعاون مع التجربة الروائية للكبير نجيب محفوظ، الفائز العربي الوحيد بجائزة نوبل للآداب عام 1988. لم يكتف محفوظ بمنح السينما دررًا من رواياته لتحويلها إلى أفلام، بل كتب بنفسه العديد من السيناريوهات السينمائية، مثل فيلم "اللص والكلاب" الذي أُنتج عام 1962.
أما التجربة المغربية في هذا المجال، فتبدو محدودة إلى حدّ كبير. إذ إن الأفلام السينمائية التي اقتبست روايات مغربية تظل قليلة جدًا. من بين هذه النصوص: "جارات أبي موسى" لأحمد التوفيق، "بولنوار" لعثمان أشقرا، وقصة "بامو" لأحمد الزيادي، و*"الغرفة السوداء"* لجواد مديدش. كما أُنجز فيلم "الوشاح الأحمر" عن رواية "أسلاك شائكة" التي تناولت معضلة إغلاق الحدود بين المغرب والجزائر، غير أن المخرج لم يعترف بذلك رغم وجود عقد موقّع.
عند محاولة الوقوف على أسباب محدودية اقتباس السينما المغربية للروايات المحلية، نجد أبرزها:
1. التكوين الفرنكوفوني لأغلب المخرجين المغاربة، مما يحدّ من اطلاعهم على الروايات المكتوبة بالعربية.
2. ظاهرة المخرج المنتج الممثل الكاتب، التي تؤدي غالبًا إلى نتائج ضعيفة.
3. تأثر الرواية المغربية بالرواية الفرنسية الجديدة، مما قلل الاهتمام بالبعد الحكائي الذي يهم السينمائيين.
4. عدم تسليط الضوء على الروايات الجديدة التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي بالتصالح مع البعد الحكائي.
5. سوء الفهم بين المخرجين والأدباء بسبب تجارب سابقة سيئة، أثّرت على حقوق الطرفين.
دون التعمّق أكثر، يمكننا الإمساك بخيط التفاؤل لنقول: إن العلاقة بين الأدب والسينما محكومة، عاجلًا أو آجلًا، بربط وشائج قوية تخدم الثقافة المغربية، أدبًا وسينما. هكذا نمضي قُدمًا نحو إنتاج نصوص إبداعية تقدّم وجهًا مشرفًا للإبداع المغربي، وتمنحنا موطئ قدم في المشهد العربي والعالمي.
تعليق